رامان آزاد_
ملامحٌ عديدةٌ للتشابه بين الأزمة الأوكرانيّة، والسوريّة، من حيث حيويّة المسألة فيما يتعلق بموسكو، للوصول إلى البحار الدافئة، ومواجهة مدِّ “الأطلسة”، وجاء تدخلُ موسكو في شرق أوكرانيا، وضمّ شبه جزيرة القرم في سياقِ صراعٍ جيوبوليتيكيّ، وليس فقط لتناقضٍ أيديولوجيّ بين الاشتراكيّة والرأسماليّة، لتأكيد حضورها على المسرح الدوليّ بعد انكفاءٍ لأكثر من عقدٍ، ولتطرح بحشودها العسكريّة على حدود أوكرانيا اليوم، خيارين المواجهة، أو القبول بشروطها.
الأمن الأوراسيّ
ليلة 31/12/1991، انتهى وجودُ الاتحاد السوفييتي، الذي نشأ على أنقاضِ الإمبراطوريّة الروسيّة عام 1922، عقبَ الثورةِ البلشفيّة الاشتراكيّة 1917، بعد مخاضٍ عامين من التفكّكِ المتسارع، وصل الذروةَ باستقالة الرئيس ميخائيل غورباتشوف، وانتهت في مطلع عام 1992 دولةُ لينين وستالين، والقوة الشيوعيّة العظمى بأهدافها الثوريّة، وشعارات مناصرة البروليتاريا، وتكريس استبداديّةِ الدولة، ودخل العالم مرحلة أحاديّة القطبِ بقيادة واشنطن، وانتهت صلاحيّة خريطةِ مؤتمر يالطا في 11/2/1945، بخروج أحد القطبين من مضمارِ التنافس، ونهايةِ الحربِ الباردة، فتغيّرت خارطةُ النفوذِ بالعالمِ، وانفردت واشنطن بقيادةِ العالمِ، وواجهت مناوئيها بالعقوباتِ الاقتصاديّةِ، والتدخلاتِ العسكريّةِ المباشرة، وغير المباشرة، ثمّ بتشجيعِ تصديرِ الوصفةِ الديمقراطيّةِ، فيما سُمّي “الثورات الملوّنة”.
في واشنطن تمَّ العملُ على صيغةِ مشروعٍ كبيرٍ، يرسّخ انفرادها بقيادةِ العالم، وفي 3/6/1997 كان أولُ حراكٍ علنيّ لمشروعِ القرن الأمريكيّ الجديد، بإعلان “بيان المبادئ”، ووصف البيانُ الولايات المتحدة: أنّها “القوة المهيمنة بالعالم”، وقال: إنَّ الأمة تواجه تحدّياً “لصياغة المبادئ، والمصالح الأمريكيّة المقبولة في القرن الجديد”، ولتحقيق هذا الهدف، دعا البيان لزيادةٍ كبيرةٍ في إنفاقِ الدفاع، وتعزيز الحرية السياسيّة، والاقتصاديّة بالخارج. فشكّل عقدُ التسعيناتِ كارثةً لحلف وارسو، وخابتِ الآمالُ بتقديمِ الغرب تنازلاتٍ مقابلةً، والتوصل لصيغةِ تقاربٍ، فكانتِ التنازلاتُ من الجانبِ السوفييتيّ فقط، وانتهز الغربُ الفرصةَ لتعزيز أيديولوجيّته الرأسماليّة، والليبراليّة، وتوسيعِ إطار نفوذه، واتسع نطاقُ الناتو بانضمامِ بلدان أوروبا الشرقيّة إليه (رومانيا، المجر، جمهورية التشيك، سلوفاكيا، بلغاريا، بولندا، سلوفينيا، كرواتيا)، ثم انضمّت دولُ البلطيق من التركةِ السوفييتيّة (إستونيا، وليتوانيا، ولاتفيا).
فعانت روسيا بعد تفكك الاتحاد السوفييتيّ مشاكلَ اقتصاديّةَ، وسياسيّةً، واجتماعيّةً كبيرة، أثّرت بوضوح على أدائها، وحضورها الدوليّ، وكان استيرادُ القمح مؤشّراً بغاية السلبيّة لبلدٍ كان من أوائلِ المصدّرين.
لكنّ أخطر ما استشعرته موسكو كان المدُّ الأطلسيّ في جوارها، أو ما سمّي “الأطلسة” وانتشار القيم الغربيّة، والأمريكيّة، بمقابلِ انكفاءٍ روسيّ، فانسحبت من مواقعِ، كان وجودُها فيها يمثلُ تحدّياً للولاياتِ المتحدةِ الأمريكيّةِ، وبخاصة في منطقة الشرق الأوسط، وكان دورها باهتاً في حرب يوغسلافيا، وحاولت روسيا استثمارَ أحداثِ 11/9/2001 للتقاربِ مع واشنطن المتحدةِ، فقدّمت نفسَها شريكاً، يُعتمدُ عليه في محاربةِ “الإرهابِ”، وأقدمت على تنازلاتٍ سياسيّةً، وأمنيّةً، وعسكريّةً في آسيا الوسطى، كانت تُعدّ إلى عهدٍ قريبٍ من محرّماتِ السياسةِ الروسيّةِ.
فكان سقوطُ الاتحاد السوفييتيّ مدوّياً، انعكست تداعياته على خرائط النفوذِ، والتموضع السياسيّ العالميّ، وأدخلت روسيا في حالةِ ارتباكٍ، ومشاكل اقتصاديّة، وغرقت دول شيوعيّة في شرق أوروبا في “الأطلسة”، فدخلت منطقةُ الجوارِ الروسيّ على اتساعِها تحولاتٍ شاملةً، وعدّلت سياساتها الخارجيّةِ، وتموضعها وفق هذا المتغيّر، وكان انهيارُ الشيوعيّة وتقسيمُ الاتحادِ السوفييتيّ ضربةً مباشرةً في صميمِ الهويةِ الثقافيِّةِ، والسياسيّةِ، والاقتصاديّةِ الروسيّةِ، بالمقابلِ أعلن المعسكر الغربيّ الأمريكيّ-الأوروبيّ انتصارَ أيديولوجيته السياسيّةِ الليبراليّةِ بمفرداتها كلها.
فبدأت روسيا بحثاً محموماً عن أيديولوجيا جديدةٍ محلّ الشّيوعيّة، وانخرط الكرملين رسميّاً في عهدِ بوريس يلتسين بالبحث عن أيديولوجيا، أو عقيدة قوميّة جديدة، وكان البحث يتمحورُ حول الديمقراطيّة، وتداول السلطةِ، وحقوق الإنسان وغيرها من القيم السائدة بالمجتمعات المعاصرة، التي كان يسودُ الاعتقاد، أن روسيا تتهيَّأ للانتقال إليها. شكّل وصول فلاديمير بوتين إلى السلطة اللحظةَ الصفريّة للتحوّل، لتُطرحَ النظرية “الأوراسيّة”، التي تجسّدها مبادئُ “البوتينيّة السياسيّة”، ولتعودَ روسيا تدريجيّاً إلى ساحةِ الصراعِ الدوليّ، وتتجّه شرقاً نحو آسيا الوسطى، فتكرّس التحوّلَ نحو أوراسيا، ويُعادُ النظرُ بالعقيدةِ العسكريّةِ الروسيّةِ، وتُرسم ملامحٌ جديدةٌ للنظامِ العالميّ، وتُصاغُ مجدداً التكتلاتُ الإقليميّةُ، والتحالفاتُ الدوليّة، ويتأجج الصدامُ الجيوسياسيّ بين الأوراسيّة، والأطلسيّة في عدةِ مناطقَ من العالمِ مثل سوريا، وأوكرانيا.
صراعٌ جيوسياسيّ
وصف إلكسندر دوغين هزيمةَ الاتحاد السوفيتيّ بالحربِ الباردةِ من وجهةِ نظرٍ جيوسياسيّةٍ، أنّها انتصارٌ لحضارةِ البحر “التالاسوكراتيا” على حضارةِ البر “التيلوروكراتيا”، وفي مواجهةِ تقدمِ الناتو، الذي يمثلُ قوى البحر، فكان الردُّ الروسيّ بالتشبيكِ البريّ، وهذا مضمون النظرية الأوراسيّة، فكانتِ الحاجةُ كبيرة إلى مقاربةٍ سياسيّة مختلفة، وتحسينِ العلاقات مع دول الجوار، واستقطابها، مثل تركيا وإيران.
شغل الاتحاد السوفييتيّ مساحة أربعة وعشرين مليون كم2، ولكن بدون إطلالة مباشرةً على البحار الدوليّة، ما يُعدُّ نقطةَ ضعفٍ جيوبوليتيكيّة خطيرة، أسهمت بحصارِه، وهو ما حدث في مواجهة بريطانيا بالقرنين الثامن عشر، والتاسع عشر، ومن بعدها الولايات المتحدة الأمريكيّة بالقرن العشرين، فالحربُ الأولى بين إنكلترا، وروسيا القيصريّة انتهت بهزيمةِ روسيا القيصريّةِ، وانتهتِ الحربُ العالميّة الثانية، بانتصارِ الولاياتِ المتحدةِ الأمريكيّةِ ومعسكر الناتو، فيما خرج المعسكر الاشتراكيّ مثخنَ الجِراحِ، وبخسائرَ كبيرةٍ، وإن لم يُهزم بالنتيجةِ، وفي كلتا الحربين لم يكنِ الصراعُ العالميُّ أيديولوجيّاً صرفاً بين الرأسماليّةِ والاشتراكيّة، أو بين قوى البر والبحر، بل كان الدافعُ هو الجغرافيّا، والمصالحُ التي تترتبُ فوق أرضيّةِ الجغرافيّا، كما كان غزو أفغانستان محاولةً لترميمِ هذا الخللِ، وبعد عشرِ سنوات من الاحتلالِ، مُنِيَ الجيشُ السوفييتيّ بالهزيمة، التي أدّت إلى تفككه، ولعبت واشنطن دوراً مهماً بدعمِ حركةِ طالبان.
وتأسيساً على عبرةِ الحربِ على ليبيا، التي تمّت فيها إزاحة روسيا من شمال إفريقيا، كان قرارُ موسكو حازماً بالتدخلِ العسكريّ في سوريا بثقلٍ عسكريّ نوعيّ، دفاعِاً عن المصلحةِ الجيوسياسيّة، ولو اقتضى الأمرُ صراعاً عسكريّاً طويلاً فيها، ويعتقد الكرملين أنّه بدفاعه عن سوريا، يحافظُ على النفوذِ الروسيّ قوةً دوليّةً عظمى، ويحفظ لنفسه موطأ قدمٍ على الساحلِ الشرقيّ للبحرِ المتوسطِ، وسوريا جزءٌ مهمٌ جداً من الفضاءِ الأوراسيّ، الذي تتطلع موسكو لقيادته في مواجهةِ الغربِ، وخسارتها لها لا تُعوّضُ.
ينطلقُ بوتين من اعتبارِ المنطقةِ الأوراسيّة جزءاً من الأمنِ القوميّ، والمصالحِ الوطنيّةِ الروسيّةِ المركزيّةِ، لا يجوزُ التهاونِ فيها، وجاءتِ السياسةُ الروسيّةُ على نسقٍ واحدٍ في الفضاءِ الأوراسيّ لكسرِ الحصارِ المفروضِ عليها، وخاضتِ الحربَ في القوقازِ لاستعادةِ مجالها الحيويّ في جورجيا، وتدخلت بثقلٍ عسكريّ نوعيّ في سوريا، لإعادةِ تفعيلِ دورها في الشرق الأوسط، واستعادةِ موقعها على الصعيد الدوليّ، إذ تشكّلُ سوريا بوابة مهمةً إلى المنطقة، ولها دورٌ وتأثير إقليميّ نوعيّ.
كما تدخّلت شرق أوكرانيا لتكونَ النتيجة، استقلال جمهورتي دونيتسك، ولوغانسك الشعبيتين، وضمَّت شبه جزيرة القرم إليها، والتزمت مواقفَ سياسيّة مرنة حيال البرنامج النوويّ الإيرانيّ، فيما واجهت بقوةٍ توسّعَ حلف شمال الأطلسيّ في أوروبا الشرقيّة، ونشر الدرع الصاروخيّ الأمريكيّ، فالاستسلامُ للتفردِ الأمريكيّ الأطلسيّ بقيادة العالم موتٌ وفناءُ، ومواجهته تتطلب بلورة تكتل جيويوليتيكيّ مناوئ للأطلسيّة.