إبراهيم بركات_
في بداية السبعينات من القرن الآفل؛ كان الحراك السياسي في سوريا في أوجه كامتداد طبيعي للمدّ الثوري، الذي بدأ وهجه يشّع منذ الخمسينات مع بروز بواكير الوعي القومي السياسي لدى كردّ سوريا، ولاحقاً تبلوّره من خلال تشكيل أول تنظيم سياسي كردي، بالتزامن مع بروز مؤشرات تمخض باشور كردستان بثورة وشيكة؛ وتالياً قيام كيان كردي وتفاعل كرد سوريا مع ما يحدث وراء الحدود “هذا كردياً”.
أما على الضفة الأخرى “العربية”؛ فكانت انطلاقة الثورة الفلسطينية المسلحة بزخم ثوري كبير أرخى بظلاله على المنطقة كلها، ومن رحم القضية الفلسطينية خرج الصراع العربي – الإسرائيلي الذي مازال مستمراً رغم التصدعات التي أصابت القضية برمتها.
أتذكر في بداية الثمانينات كانت السياسة خبزنا اليومي، لأن الحراك السياسي حينذاك كان تحت تأثير ذاك المدّ الثوري بكل تلاوينه وتياراته، وكانت منطقة الجزيرة وقتها تشبه ما يمكن تسميته بـ”صالون سّياسي”.
ومع تبلور الموزاييك السياسي في مشهد الشارع الكردي (تحديداً) في سوريا، بكل ما أفرزته من الأحزاب والتنظيمات، وما تشكلت لاحقاً نتيجة تشظّي هذه الأحزاب، التي استظّلت بعض منها بوهج التجربة السوفياتية، وبعضها الآخر؛ ارتمى تحت عباءة كرد العراق بلونيها، ما أدّى إلى انشطار هذا المشهد بين اليمين، واليسار بمختلف تلاوينه وتياراته، وفي هذه المرحلة كان الأخطبوط البعثي قد تغلغل داخل المفاصل الأساسية كافة في بنية المجتمع السوري برمته، وبات يتحكم بأدق تفاصيل هذا المجتمع، بعباءة مخابراتية يشّد الخناق على التفكير والحياة اليومية للمواطن السوري، ويستولي على ملكاته الفكرية والنفسية تمهيداً وترويضاً لتفشي الفكر البعثي بين المجتمع بشكل قسري، وخاصة الشباب منه بالترهيب والوعيد، بالترافق مع اشتداد خنقه للأحزاب والحركات الأخرى حتى غير المعارضة، فاختفت الحركة الطلابية الفاعلة وكذلك العمالية، ما أدى إلى تسّرب الميوعة والقرف إلى المشهد العام مفسحاً المجال مرغماً للفكر البعثي الشوفيني، وأدواته القمعية لسلب الحياة السياسية برمتها.
وفي المساحة التي حاولت الأحزاب الكردّية، القيام بدور فاعل، والسيطرة على الرقعة الجغرافية رغم محدوديتها لم تستطع هذه الأحزاب من فتح آفاق جديدة، ومحاولتها فتح ثغرة لترتقي بنضالها، وعملها إلى مستوى متطلبات المرحلة؛ ورفع سوّية الفكر الكردي من خلال الموروث التاريخي المتراكم، واستثماره في مواجهة سياسات الإلغاء وطمس الهوية؛ وزج الشباب في العمل السياسي المجدي لتجاوز حالة الخوف والرعب من ممارسات السلطة، ففشلت أيضاً.
فالشبيبة الواعية قادرة على الخروج من معركة إثبات الوجود بأقل تضحيات، ولكنها في النهاية تكون قد أنجزت ما تحتم عليها القيام بها أمام شعبها والتاريخ.
غير أن أقصى ما فعلته الأحزاب الكردّية، هي المحافظة على ذاتها مع هامش محدود في الحراك السياسي، وخاصة بعد ظهور حزب الـعمال الكردستاني PKK بين كرد سوريا، وانخراط أغلب الشباب الكرد في صفوفه؛ واستنهاض حالة شعبية قلت نظيرتها، ما فتح الصراع في أكثر من اتجاه، ومحاولة كل طرف الاستحواذ على الشارع السياسي بل احتكاره، فتراجعت أولويات مطالب كرد سوريا إلى دون المستوى المطلوب، وبات هاجسهم الحدّ من انتشار PKK، لكن بقي الصالون مفتوح الأبواب أمام كل تيارات الرياح، والأعاصير من مختلف الاتجاهات والحراك فيها حامي الوطيس.
هناك عامل مهم ساهم في رفع وتيرة الحراك السياسي، وهو التحوّل في باشور كردستان في أوائل التسعينيات، مع إعلان باشور كردستان ككيان سياسي مستقل بمؤازرة أمريكية، بعد الحصار الذي فرضه مجلس الأمن على النظام العراقي آنذاك.
ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، وتداعياته على المنطقة، والذي أدى إلى إصابة اليسار في الصميم، حيث كان لهذه الصدمة تأثيراتها الكبيرة على المشهد السياسي السوّري عموماً والكردّي خصوصاً، بالتزامن مع استفحال ظواهر عديدة بين المجتمع، (القمع السياسي، البطالة، الفقر، الفساد) الذي استشرى في جميع أجهزة الدوّلة من النهب، والاستيلاء على قوت الشعب، والتململ والإحباط اللذين باتا معضلتين يعاني منهما أفراد الشريحة الشبابية، وسد المنافذ أمامها، وكان هناك من يعمل على حملها للهجرة هرباً كحل لأوضاعها المزرية، ما دفع بشريحة واسعة إلى الهجرة هرباً من هذا الواقع المؤلم.
وفي غياب أية بوادر ومؤشرات للحل تلوح في الأفق، باتت الهجرة حلم يدغدغ مخيلة أكثر من 75 بالمئة من الشباب، كما كان للحراك السياسي الكردي تحديداً، تأثيره السلبي على ذهنية وفكر الشباب، حيث المشهد بات يكرر نفسه، ويدور في حلقة مفرغة، مع تمسك القيادات (التاريخية) وبطانتهم بكراسيهم ومراكزهم، كما لم يستطع (ربيع دمشق) من إخراج الحياة السياسية السوّرية من عنق الزجاجة، رغم وأدها من قبِل السلطة لاحقاً، وبقي المشهد في المنحى ذاته، وعاد الركود إلى الشارع السياسي، خاصة في غياب أية رؤى أو رؤية واضحة للمعارضة، وانشطاراتها هنا وهناك وباتجاهات مختلفة، وغياب برنامج واضح يلّم شمل هذه المعارضة، ناهيك عن عودة الرهبة والخوف من القمع المعشعش في ذهن كل سوري، مع مجيء جيل جديد من رموز السلطة وبطانتها، تمارس قمعها واستبدادها وتحكم البلد بالحذاء العسكري.
لذا فكما كانت الإرهاصات السابقة، والتجليات اللاحقة، لم تنقذ ربيع دمشق لأكثر من سبب، ولم يكتب له الديمومة، كذلك مرّرت أحداث الثاني عشر من آذار 2004 وتداعياتها دون أن تترك بصمتها المؤثرة في المشهد السياسي الكردي، سوى مظاهرة هنا واعتصام هناك أقصى مطالبهم كانت إطلاق سراح المعتقلين على خلفية تلك الأحداث.
ماعدا ذلك بقيت مفرقعات لا تجدي نفعاً، فلم تستطيع الأحزاب الكردية استثمار أحداث الثاني عشر من آذار لرفع سوية عملها ونضالها، خاصة بعد أن بينت الأحداث حجم وضخامة القوة الشبابية الكامنة في المجتمع الكردي، وهي بحاجة لمن يديرها بالاتجاه الصحيح وتنقذها من هذه الدوامة التي تتخبط فيها، إنها بحاجة لقيادة مدّركة لشراسة المعركة وتستطيع الإمساك بزمام الأمور، لا يمكننا جعل الديمقراطية مجرد شماعة، نُعلق عليها أخطاءنا بل خطايانا، ونتغنى بها، إنها عرف سياسي، وإنساني تمارس ممارسة خلاّقة فهي كفيلة بخلق جيل شاب مدّرك، وواعي ومندفع ومبدع استناداً إلى الموروث التاريخي المتراكم وإلى مجمل تاريخ الحركة الكردّية والسورية على حد سواء.
على العقلية السياسية الكردّية التخلص من صورة الشخصيات النمطية، التي تحكمت بها، للخروج من هذه الشرنقة إلى فضاءات العمل السياسي، الذي تتكامل فيها العناصر الذاتية والموضوعية لتصب في نهاية المطاف لمصلحة سواد الشعب، بكل ما تحمله من التوق إلى الحرية، وممارسة لحياته الإنسانية الكريمة وتحفظ له كرامته واعتزازه بانتمائه الوطني والقومي.
سبارتاكوس كان عبداً في روما القديمة، ونتيجة ما عاناه، وأبناء جلدته من الأسياد استطاع قيادة أول ثورة في تاريخ البشرية هي ثورة العبيد.
فما بالكم ونحن أبناء القرن الواحد والعشرين…؟؟
