رامان آزاد_
المعركةُ الإعلاميّة التي ترافقت مع أحداثِ سجن غويران كانت كبيرةً جداً وكلّ طرفٍ بطريقته، وكأنّها كانت تراهنُ على سقوطِ المنظومةِ الأمنيّة والإداريّة في شمال وشرق سوريا عبر الثقبِ الأسودِ الذي أحدثه “داعش”، وعلى مدى أسبوعٍ من الاشتباكاتِ العنيفة والعمليات النوعيّة ومع تكرارِ مشهدِ الباغوز واستسلام المرتزقة أُسقِط في أيدي المستبشرين بانبعاثِ “داعش” وحَبُطت آمالهم.
قادمون لكنهم لم يَصلوا
لم تتورع إحدى الأقنية التلفزيونيّة عن إطلاق وصف “ملحمة غويران”، فيما ضجّتِ الكثير من صفحات التواصل الاجتماعيّ بمعلوماتٍ مفبركةٍ مبالغ فيها، واستخدمت كلمة “قادمون” شعاراً للدلالة على خروج “المارد” من قمقم الاعتقال ليستعيد السيطرة والظهور العلنيّ على الأرضِ، ويرفع رايته السوداء على الأحياء.
والقدومُ لغةً يعني حركةَ المجيء، وهو يختلفُ عن معنى العودةِ التي تعني إيابَ أهلِ المكانِ إلى أرضهم وبيوتهم. وكان “داعش” أحد أكثر التنظيمات استخداماً لشعارِ “قادمون”، ما يعيد طرحَ السؤال القديم من أين جاء “داعش”؟ لتعود الذاكرة بنا إلى سجن “بوكا” في العراق. وحكاية “أبي مصعب الزرقاويّ” وجماعة “الجهاد والتوحيد”، ومن بعد “أبو عمر البغداديّ” وإعلان ما سُمّي “الدولة الإسلاميّة”، وليعلن “أبو بكر البغداديّ” على منبر جامع النور بالموصل ما سمّاه “الدولة الإسلاميّة في العراق والشام”.
وضمَّ “داعش” في صفوفه آلافاً من جنسياتٍ متعددةٍ، قدموا عبر الأراضي التركيّة، إضافةً إلى أعدادٍ كبيرةٍ من أهلِ المناطق التي سيطروا عليها. وبذلك فالقدومُ لا يعني بالضرورةِ الانتقالَ المكانيّ، بل سيطرةَ الفكر المتطرف والسلوك الدمويّ.
في 23/3/2019 كان المشهد الأخير في بلدة الباغوز، والنهاية الجغرافيّة لمرتزقة “داعش”، وانقسمت فلوله تباعاً مع إنجازات تحرير المناطق والمدن إلى ثلاث أقسام، البعض لجأ إلى البادية السوريّة وآخرون عبروا إلى المناطق المحتلة من قبل دولة الاحتلال التركيّ، فيما تحوّل القسم الثالث إلى خلايا نائمة، تمدّ برأسها من حين لآخر لتنفّذ عملية إرهابيّة.
وتنقسمُ معضلةُ “داعش” حالياً إلى ثلاثةِ مستويات الأول يتعلق بآلافِ المعتقلين من جنسيات متعددة، وتكمن المعضلةُ بالتجاهلِ الدوليّ لإيجادِ آليّةٍ قانونيّةٍ لمحاكمةِ المرتزقة، والثاني يتمثلُ بمخيمِ الهول، الذي يضمُّ آلافاً من أفراد عوائل المرتزقة، والإشكال يتعلق بالنساء اللواتي شكلن نموذجاً من “الحسبة” ويصدرنَ أحكام القتلِ والقصاص، ويشهد المخيم من وقتٍ لآخر جرائمَ قتل وحرقٍ للخيم، وأما الوجه الثالث للمعضلة فيتعلق بالأطفال أو ما يُعرف باسم “أشبال الخلافة”. وستبقى المشكلة قائمة ما دامت دولُ العالم تمتنع عن استلام رعاياها من النساء والأطفال.
ويمكن النظر إلى الأحداث الأخيرة على أنّها تتجاوز محاولة تهريب معتقلين، لتكون محاولةَ لإحياءِ “داعش”، والانتقال من طور الكمون إلى الظهور، بالاعتماد على إخراج آلاف المعتقلين من السجن. كما كانت محاولة لوصل الحسكة بالمناطق المحتلة من قبل دولة الاحتلال التركيّ التي قدم عدد من المرتزقة المهاجمين، واعترف أسرى بأنّهم قدموا من سري كانيه المحتلة، إلا أنّ المحاولة فشلت والقادمون لم يصلوا!
المعركة الإعلاميّة ومحاولة الفتنة
المعركة الإعلاميّة كانت على أشدّها، ولم تقتصر على المبالغة في الحدثِ، بل على تزويرها خلافاً للمعطياتِ على الأرض، وإعطائه أبعاداً إضافيّة، فتم تداول قصص عن تهجير الأهالي في أحياء غويران والزهور والنشوة، وتجاهلت أنّ عناصر من “داعش” هربت إلى الأحياء السكنيّة وارتكبت جرائم قتلٍ واستخدمت الأهالي دروعاً بشريّة. ومضى البعض في التسويق للفتنة من قبيل توصيف المعركة أنها بين الأسرى الموحّدين والملاحدة، واستغرق آخرون في الخيالِ ليقولوا: إنّها معركةٌ تستهدفُ “السُّنة”، وتهجيرهم قسراً، وتغافلوا عن حقيقةَ أنّ الآلاف من ضحايا “داعش” من عشيرة أبو نمر وعشيرة الشعيطات وأبناء الرقة وريف دير الزور ومنبج هم من السُّنة. وراجت روايةُ أنّ الأحداثَ مفتعلةٌ.
والحقيقةُ أنّ الأحداثَ كانت استمراراً لمعاركَ سابقة ضد الإرهابِ، يخوضُها أبناء شمال وشرق سوريا، وهي لما تتوقف، وإنّما تغيّر أسلوبها، والأحداث مفتعلة فعلاً ولكنها محلّ استثمارٍ عدة جهاتٍ، وفي مقدمهم أنقرة التي لم يتوقف جيشها عن قصفِ مناطق في شمال وشرق وسوريا في الشهباء وعين عيسى وتل تمر وتقوم بمعارك مشاغلة، دعماً لمرتزقة “داعش”.
أحداث سجن غويران على وشكِ النهايةِ بما لها وما عليها، وبقيت جيوب مموّهة بالمهاجع الشماليّة، وكسبت قوات سوريا الديمقراطيّة المعركة بجدارةٍ، بصرف النظر عن كلّ الاتهاماتِ والأجندة الإعلاميّة المناهضة لها، وفيما أراد مهندسو الأحداث النيل من هذه القوات، فقد وضعتها الأحداث في صدارة الاهتمام الدوليّ، وفيما كان العالم قد ركن إلى الصمت حيال قضية “داعش” ومعتقليه، فإنّ أصواتاً كثيرةً ارتفعت في العالم وطالبت بتقديم المزيد من الدعم لهذه القوات، كما أشادت بدورها في مكافحة الإرهاب. ولفتت النظر إلى حقيقة أنّ الإرهاب وضعٌ لا يمكن التعايش معه كباقي أزمات العالم من قبيل مسائل الهجرة والمخدرات.
مغامرة وعملية انتحار
قضية أسرى “داعش” المعتقلين سبق أن أشار إليها “البغدادي” في آخر رسالة صوتيّة له في 15/9/2019، وودعا إلى “استهداف رجال الأمن والمحققين والقضاة في السجون”، التي يقبع بها عناصر “داعش”. وكان واضحاً خلال العدوان التركيّ على شمال سوريا فقي 9/10/2019، المسعى لتحرير معتقلي “داعش” وإنهاءِ حالةِ المخيماتِ، وتمت تصفية “البغدادي” في 26/10/2019، دون تحقق مطلبه، ولم يحقق “داعش”، إنجازاً كبيراً في غيابِ “البغداديّ”.
وبصرفِ النظرِ عن الاستثمارِ الإقليميّ للحدثِ، فإنّ “داعش” نفسه بحاجةٍ لعمليةٍ كبيرةٍ لكسرِ روتينِ عملياتِ الاغتيال، بعد الانهيارِ الكبيرِ، لتكون أولاً بمقامِ الانتقام لهزيمته الكبيرة، فيستعيد ثقته أمام مرتزقته، ويؤّكد أنّه يملكُ القدرةَ على تحرير معتقليه، وفي الوقتِ نفسه أراد أن يسترجعَ هيبته التي فقدها وأهميته، ويتداخلُ مع هذه الغايةِ هدفٌ آخر، يتعلقُ بالمعتقلين الذين يتجاوزُ عددهم أربعة آلاف، وهؤلاء سيشكّلون فرقةً عسكريّةً ضاربةً بمجردِ حصولهم على السلاحِ وتمكينهم من الخروجِ من السجن، وهو ما يُعوّلُ عليه في السيطرةِ على الأحياءِ القريبةِ والتوسّعِ منها إلى المدينة.
اعتمد المهاجمون على عنصرِ المفاجأة والتفجيرِ المفخخ والانتحاريين، وهي عواملٌ من شأنها إرباكُ حاميةِ السجنِ لفترةٍ من الوقتِ يمكنُ استغلالها للعملِ بسرعةٍ كبيرةٍ للوصولِ إلى داخلِ السجنِ وتأمينِ وصولِ السلاحِ إلى المعتقلين، إضافةً إلى الضغطِ عبر أخذِ رهائن.
إلا أنّ عاملَ الصدمةِ المفاجئ سرعان ما تمَّ استيعابه، في أقل من حدودِ الزمنِ المخطط له، وبادرتِ القوى الأمنيّةُ والعسكريّةُ إلى ضربِ طوقٍ أمنيّ حولَ المنطقةِ، وتدخلت حواماتُ التحالفِ، لتفشلَ الهجمات في أهدافها الأساسيّةُ، وتحولت إلى اشتباكاتٍ في بقعةٍ محدودةٍ، وفيما أثبتتِ الهجمات أنّ مرتزقة “داعش” افتقدوا إلى دقةِ التخطيط واعتمدوا على العاملِ المعنويّ والعقائديّ ومن يسمّون بالمبايعين على الموت، فإنّ المواجهةَ مع قوات سوريا الديمقراطيّة صعبةٌ، وهي التي راكمت خبراتٍ عسكريّةً وميدانيّةً في معاركِ تحريرِ المدن والبلدات، لتبدو العمليةُ بالنتيجةِ أقربَ إلى الانتحارِ، لا يخسرُ فيها المستثمرُ أيَّ شيءٍ في حالِ فشلتِ المغامرة.