رامان آزاد_
بكلفةٍ شبه مجانيةٍ تواصل أنقرة تنفيذَ مشاريع بناء البؤر الاستيطانيّة في سياق خطة التغيير الديمغرافيّ في المناطق التي تحتلها في شمال سوريا، ذلك لأنّ أيّ أعباء مالية إضافيّة ستزيد حدة الأزمة الاقتصاديّة التي تعاني منها أصلاً، وتعتمد أنقرة بشكلٍ أساسيّ على تدفق التمويلات من الجمعياتِ ذاتِ الخلفيّةِ الإخوانيّة من الدولِ العربيّة وبخاصةٍ الخليجيّة والإسلاميّة، والتعويل على الولاء الإخوانيّ القديم للدولة العثمانيّة ورصيد العلاقةِ الشخصيّةِ للرئيس التركيّ مع التنظيم والذي يعود لأكثر من خمسة عقود.
جذور العلاقة
الحقيقة إنّ فكرة تنظيم “الإخوان المسلمين” ولِدت بعد سقوط الدولة العثمانيّة في آذار 1924، فقد اعتبرها بعض رجال الدين أنّها جسّدت وحدة الأمة الإسلاميّة، وسقوطها خسارة كبيرة، وتأخر المؤتمر التأسيسيّ حتى عام 1928 بسبب جدل فقهيّ، فقد جعل البعض فكرة أنّ الإسلام دين ودولة، فيما أصرَّ مؤسسو الإخوان. واستمد التنظيم أفكاره من مؤسسه الأول حسن البنا، ومن بعده تنظيرات سيد قطب، والذي كان متأثراً لدرجة كبيرة بفكرة الداعية الباكستانيّ “أبو الأعلى المودودي”، والذي يُعرف بانه أبو التكفيريين”، فهو أحد أهم منظري العنف، وقد انضم في شبابه إلى حركة الدفاع عن الخلافة العثمانية والتي وصلت إلى نهايتها ١٩٢٤.
وبذلك فإنّ تيار الإسلام السياسيّ الممثل بالإخوان يرتبط في أصل نشأته عاطفيّاً بالتاريخ التركيّ. ومجرد أنّ أعلنت حكومة العدالة والتنمية شعار “العثمانيّة الجديدة”، كان الولاء الإخوانيّ تلقائيّاً. واستغل الرئيس التركيّ حالة الاحتقان التاريخيّ التي تأسس عليها تنظيم الإخوان المسلمين وولاءهم للدولة العثمانيّة.
تعود جذور العلاقة بين أردوغان وتنظيم الإخوان المسلمين إلى سبعينات القرن الماضي، وفي كتابه “مخادع الربيع العربيّ”، الذى صدر عام 2012، يكشف الكاتب التركي ألبير بيردال، الضوء هذه العلاقة، ويؤكد أنّها بدأت تظهر بوضوح عام 2006، مع سيطرة أردوغان على المؤسسات الأمنيّة، وبدء احتضان اجتماعات التنظيم، واستقبال كوادره الهاربين من دول عربيّة بسبب أنشطة معادية فيها، فتحوّلت أنقرة إلى منطلق للتنظيم الدولي للإخوان، ودعمت تمددهم في دول أوروبا عبر القوة الناعمة من قبيل بناء المساجد وتنظيم الأنشطة الأهلية أيضًا، كما هو حال الاتحاد الإسلاميّ في ألمانيا “ديتيب”.
شارك أردوغان في اجتماعات رئيسيّة للتنظيم وبخاصةٍ التي عقدها في الرياض عام 1970، الذي وضع أردوغان في قلب التنظيمِ، وشارك في الندوة العالميّة للشباب الإسلامي الذي تأسس عام 1972، ما مكّنه من تكوين صداقات عديدة فيما بينهم، وتزامنت تلك الفترة مع انتهاء نجم الدين أربكان من وضع خارطة طريق للعثمانيين الجدد باسم “مللى غوروش” في عام 1969، ليؤسس بعدها أول حزب تركيّ إسلاميّ متشدد منذ سقوط الدولة العثمانيّة عام 1924، أسس أربكان حزب النظام الوطنيّ التركيّ 1970، ثم حوّله إلى حزب السلامة الوطنيّ عام 1972″. وبذلك بدأت مرحلة الاندماج وتحضير خلطة من تيار الإسلام السياسيّ والإخوانيّ في تركيا ومبادئ العثمانيين الجدد، وإحياء أحلام استعادة الماضي العثمانيّ، الذي يعتبرونه إرثاً مشروعاً للأتراك الحاليين. وواصل أربكان تأسيس أحزاب إسلاميّة تباعاً (الرفاه، الفضيلة، السعادة)، ومن رحم هذا الميراث ولد حزب العدالة والتنمية.
كان كمال الهلباوي القياديّ والمتحدث باسم تنظيم الإخوان في الغرب ممن التقاهم أردوغان في الرياض، وينقل الكاتب التركيّ ألبير بيردال عنه أنّه قال مؤكداً العلاقاتِ القديمة بين “الإخوان” والعثمانيين الجدد أصحاب عقيدة “مللى غوروش”: “لقد كان لنا علاقة مع الحركات والتيارات الإسلاميّة والقوميّة في تركيا، حتى قبل تأسيس حزب العدالة والتنمية، كان لنا علاقات مع الحركات الإسلاميّة الموجودة في تركيا”.
بدأ أردوغان مشواره السياسيّ بمنصب رئيس لجان الشباب في إسطنبول التابعة لحزب السعادة الوطنيّ، وعُرف بقربه من أربكان، وكان أحد أبرز تلاميذه، وأصبح الرجل الثاني خلال التسعينيات، ثم انشقَّ عن معلمه وأسس حزب “العدالة والتنمية” 2001، ووصل للسلطة عام 2002.
اتضحت علاقات أردوغان السريّة بالإخوان عبر مؤسسات المجتمع المدنيّ، وتأسيس اتحادات مثل اتحاد المنظمات الأهليّة في العالم الإسلامي وسعى حثيثاً للحصول على مزيد من دعم الإخوان لاختراق المجتمعات العربيّة، فكانت الاستجابة الإخوانيّة عبر الدعاية له قائداً إسلاميّاً استثنائيّاً، وكذلك عبر تقديم التمويلات.
في 16/12/2020 أطلق الإخوان” مؤتمراً دوليّاً افتراضيّاً بمشاركة نحو 40 من رموز الجماعة وشخصيات سياسيّة ودينيّة من مختلف أنحاء العالم. وقال ياسين أقطاي، مستشار رئيس حزب “العدالة والتنمية” التركيّ في كلمته، إنّ “للإخوان ومؤسسها حسن البنا، إسهامات وافرة بالتعريف العمليّ للفكر الإسلاميّ الراقي لا سيما في مفهوم الحرية الشاملة داخل وخارج حدود الأمة”. وأضاف أقطاي: “ضربت الإخوان أعظم الأمثلة في التضحية وتوفير قناعات شعبيّة بضرورة انتزاع الحرية من المحتلين المستعمرين ومن المستبدين المحليين”.
وقال علي القره داغي، الأمين العام لاتحاد علماء المسلمين إنّه تمت “شيطنة الخلافة العثمانيّة وحمّلوها كلَّ شيء رغم أنّها استطاعت حماية بلاد المسلمين، وتقدمت في مجالات وتأخرت بسبب المؤامرات الكبرى من كلِّ جانب”. وأشاد القره داغي، بظهور حركة حسن البنا ودورها في التصدي لمشروعِ تجزئة الدينِ.
قناة التمويل الإخوانيّ
أوجدت أنقرة تنظيماً إسلاميّاً يضم الجمعيات ذات الخلفية الإخوانيّة باسم “اتحاد المنظمات الأهليّة في العالم الإسلاميّ IDSB”، ليكون ذراعها في التدخّل شؤون الدول المجاورة واستدراج التمويلات لصالح أجندتها. تحت شعار نصرة المسلمين والمساعدات الإغاثية والإنسانيّة.
عُقد المؤتمر التأسيسيّ في إسطنبول في1/5/2005، وكان موضوعه: “المؤتمر الدوليّ للمنظمات غير الحكومية في العالم الإسلاميّ: البحث عن رؤية جديدة في عالم متغير”. وشارك في المؤتمر أكثر من 300 منظمة غير حكوميّة من أكثر من 40 دولة. وتم تأسيس الاتحاد رسميّاً بتاريخ 30/12/2005، ونال الرسميّة بصفة “منظمة عالمية” بقرار من مجلس الوزراء وموافقة رئاسة الجمهورية التركيّة، بعدما إنهاء إجراءات التأسيس وفق القانون رقم 3335 الخاص بتأسيس المنظمات المتسمة بالعالميّة. ورغم أنّ الاتحاد إسلاميّ عام إلا أنّه عقد كل اجتماعاته السنوية في تركيا، وهي مركز نشاطاته الأساسيّة، ولتكون أنقرة الموجه الأساسيّ لنشاطاته.
الواقع أنّ “اتحاد المنظمات الأهليّة في العالم الإسلاميّ، هو كيانٌ موازٍ في مهمته واتجاهاته وولائه لاتحادِ علماء المسلمين، وهو متعدد الأهداف، فإلى جانب الترويج وتنفيذ أجندة أنقرة السياسيّة وتقديم صورتها على أنها زعيمة العالم الإسلاميّ السنيّ، فإنّه يجمع التمويلاتِ بزعمِ نصرة المسلمين والمساعدات في سوريا عن طريق المنظمات المنضوية تحت لوائه حول العالم العربيّ، وتذهب الأموال عمليّاً إلى حزب “العدالة والتنمية”، من خلال هيئة الإغاثة الإنسانية التركية، وقد كشف تقرير لصحيفة “ينى شاغ” التركية في 11 مارس 2011، أنّ الحزبَ جمع تبرعات من 52 دولة حول العالم العربيّ والإسلاميّ، ووُضعت الأموال تحت إمرة أردوغان، ووظفت التمويلات في إنشاء ودعم الميليشيات السوريّة لتكون جيشاً تركيّاً رديفاً لم يقتصر دوره على الحرب في سوريا، بل حتى القتال في ليبيا وأذربيجان، وبذلك كانت كلفة السياسة والتدخّل الخارجيّ التركيّ في الحد الأدنى مالياً وبشرياً.
تمويل الاستيطان
يُشكّل الاقتصاد أهميّة استثنائية لدى تنظيم الإخوان المسلمين، ويتجاوز كونه أحد مرتكزات قوته وأداةً هامة في تنفيذ مشروعه الفكري والسياسيّ، بل يتم توظيفه في اختراق المجتمعات واستقطاب المؤيدين عبر المشاريع تنفذ بعناوين إنسانيّة وخدميّة، واستغلال تلك الفئات في تحقيق المشروع السياسيّ، وغني عن القول عن التنظيم لديه إمبراطوريّة اقتصادية تضم العديد من المؤسسات الاقتصاديّة والجمعيات الخيرية حول العالم وهذه المسألة أدركها أردوغان بشكل جيد لتنفيذ مشروعه السياسيّ مجاناً على حساب تمويلات التنظيم وبخاصةٍ احتلال مناطق من سوريا.
مع احتلال الجيش التركي مناطق في شمال سوريا استنفرت أنقرة الجمعيات ذات الخلفية الإخوانيّة في مختلف البلاد العربيّة والإسلاميّة في العالم، بشعارات دينيّة وإنسانيّة. فتدفقت التمويلات الطائلة وكان بناء المساجد أحد مظاهر هذا التمويل لتحقيق عدة أهداف، وتدرك كلّ المؤسسات والجمعيات الإخوانيّة أنَّ المشروع التركيّ الاحتلاليّ ينطوي على إنشاء جيب إخوانيّ على الحدود وبذلك فإنّ سبب تدفق التمويلات مذهبيّ دينيّ.
التغيير الديمغرافيّ هدفُ العدوان والاحتلال الأساسيّ، ويتمُّ تنفيذه بعناوين إنسانيّة، وينطوي على استبدال المخيمات بمنازل من الطوب ضمن مشاريع قرى نموذجيّة. وكلّ الجمعيات والمؤسسات التي تقدّم التمويل إما منضوية في إطار اتحاد المنظمات الأهليّة في العالم الإسلاميّ مثل مؤسسة وفاء المحسنين الخيريّة، ومؤسسة وطن، هيئة الإغاثة الإنسانية وحقوق الإنسان والحريات IHH، جمعية صدقة تاشي (حجر الصدقة)، جمعية الأيادي البيضاء التركيّة، جمعية خير أمة، جمعية عطاء للإغاثة الإنسانية، أو جمعيات ذات خلفيّة إخوانيّة في دول الخليج، وتبرعات مباشرة من أهالي بلدات فلسطينيّة (عرب ــ 48) وجمعيات فلسطينيّة مثل جمعية “العيش بكرامة”.
آخر البؤر الاستيطانيّة التي تم الانتهاء منها، قريةُ “أشبال بيت المقدس” في جندريسه وافتتحت في 8/10/2023، من قبل جمعية “Sadakataşı حجر الصدقة” التركيّة بحضور رئيسها كمال أوزدال. وتضم 270 منزل من الطوب ومدرسة كبيرة، ووُزعتِ المنازلُ بالكامل على المستوطنين رغم الإعلان أنّها مخصصةٌ للمتضررين من الزلزال، ولم تستفد منها أيّ أسرة كرديّة من أهالي جنديرس.
ثمّة غاية مهمة من وراء استدراج التمويلات ومشاريع البناء وتتمثل بدعم الاقتصاد التركيّ وتوفير آلاف فرص العمل للأتراك. وتشترط الحكومة التركيّة على كلِّ جهةٍ تقوم بتمويل بناء المستوطنات أن يكونَ لها شريكٌ تركيّ، وأن تُحوّلَ الأموالُ عبر مصارف تركيّة أولاً لصالح “الشريك التركي” بالليرة التركيّة، وأن يُقتطع نحو 70% منها، ثم تحوّل إلى المناطق المحتلة. كما أنَّ مواد البناء والأعمال الهندسيّة والتنفيذيّة تأني كلها من تركيا وتُدفع النفقات بالليرة التركيّة حصراً، وتُنظم عقودٌ بمبالغ كبيرة مع المهندسين والإداريين والشركات التركيّة.
بناء المدارس الدينيّة
أولت سلطات الاحتلال التركيّ اهتماماً خاصاً بالتعليم، نظراً لأنّ نتائجه مديدة، وتولت مؤسسة إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد) إدارة الواقع التربويّ والتعليميّ في المناطق الخاضعة للاحتلال التركيّ بإشراف هيئة الشؤون الدينية “ديانت”، وتم بناء وافتتاح عشرات المدارس الدينيّة في المنطقة عبر تمويلات خارجيّة قطريّة، وجمعيات ومنظمات إخوانيّة كويتيّة ومن الأراضي الفلسطينية (عرب ــ 48)، ومن باكستان.
إمعاناً في سياسة التغيير الديمغرافيّ والثقافيّ التي تنتهجها سلطات الاحتلال التركيّ في عفرين المحتلة، افتتحت في بلدة راجو مدرسة عمر بن عبد العزيز الشرعيّة، ويُدرس فيها منهاجٌ دينيّ مطعّمٌ بأيديولوجيا تنظيم الإخوان وعقيدته، والجهة الممولة منظمة “سيلاني” الباكستانيّة. وفي سياق الدعاية واستقطاب الطلاب وتشجيعهم للالتحاق بالمدرسة سيُمنح كل طالب يسجل بالمدرسة مبلغ 150 دولار أمريكيّ، مستغلين الظروف الاقتصاديّة العامة المتردية.
افتتاح مدرسة شرعية ليس ظاهرة جديدة في عفرين المحتلة، بل سبق أن تمّ افتتاح مدرسة إمام وخطيب بالمنطقة. وبالإجمال فإنّ افتتاح المدارس الدينيّة والشرعيّة خطوة استكماليّة في إطار لخطة أوسع، فقد طرأ تغيير عام على المناهج الدراسيّة، وتمت زيادة حصص الدراسة الدينيّة واللغة التركيّة، ويتمُّ التركيز في مجملِ المناهج على تمجيد الدولة التركيّة ورموزها وتاريخها العثمانيّ والتعليم الدينيّ المتشدد وفق منهج الإخوان. يضاف لذلك الحلقات والدورات والدروس الدينيّة بالمساجد.
