رامان آزاد-
بالمطلق كانت غاية عملية احتلال مدينة جرابلس استهدافاً مباشراً لمشروعِ الحلِّ السياسيّ والديمقراطيّ للأزمة السوريّةِ، بعدما فشل وكلاء أنقرة بتنفيذِ الدورِ المُناطِ بهم، وكانت أولى التفاهمات وتجاوز الخلافاتِ بين موسكو وأنقرة، فيما تغاضت واشنطن عن التدخل التركيّ من قبيلِ الاستدراك، وكانتِ الخطوةَ العمليّةَ الممهّدة لإنشاءِ منصةِ أستانه التي صادرت فرصَ الحلّ السياسيّ، وجسّدت الأطماع التركيّة ومشروعها الاحتلاليّ.
عملية خاطفة
بدأ جيش الاحتلال التركي عملية احتلال مدينة جرابلس الرابعة صباحاً، وخلال ساعات معدودة، انتهى الأمر بمشاركة 10 دبابات وقصف مدفعي وجويّ كان أقرب للمشهد التمثيليّ للإيحاء بأن العملية العسكريّة قائمة، لتنتهي بذلك فترة عامين لسيطرة مرتزقة “داعش” على المدينة، الأمر الذي أثار الأسئلة حول الانهيار السريع وتوقيت العمليّة والتعديل الذي أدخلته على خارطة الميدان في سوريا.
تقع مدينة جرابلس السوريّة على الحدودِ مع تركيا مباشرةً، وقد خرجت عن سيطر النظام السوريّ في تموز 2012، وتشكلت فيها مجموعة مسلحة أطلقت نفسها “أحرار جرابلس”، وفي أيلول 2013 سيطر عليها مرتزقة “داعش”، ووقعت مواجهاتٌ عديدةٌ مع العشائر، وتعرضتِ المدينةُ لقصفِ طيران التحالفِ.
في 24/8/2016 تصدّرت جرابلس عناوين الأخبارِ مع العمليةِ العسكريّةِ الخاطفةِ التي قام بها الجيشُ التركيّ، وأحكمَ من خلالها سيطرته على المدينةِ، التي تكمنُ أهميتها في موقعها كأحدِ أهمِّ بوابات الحدودِ مع تركيا، والمدخل الأساسيّ لعبورِ الجهاديين، وفي الوقتِ نفسه هي منطلقُ مشروعِ أنقرة لإنشاءِ المنطقةِ الآمنةِ شمال سوريا، والتي كان من المزمعِ أن تشغلَ المسافةَ الواقعةَ ما بين جرابلس وإعزاز بطول يصل إلى 90 كم.
أطلقت أنقرة على عمليةِ احتلالِ جرابلس اسم “درع الفرات” واستخدمت فيها مرتزقةً سوريين، وزعمت أنّ دورَها اقتصر على تقديمِ الدعمِ الجويّ والغطاءِ الناريّ، وكذلك قال التحالف الدوليّ إنّه نفّذ غاراتٍ جويّةً لإتمامِ العمليّة. وجاءتِ العمليّةُ استثنائيّةً في أسلوبِ تنفيذها والنتائجِ السريعةِ التي تحققت خلال ساعات، رغم أنّ “داعش” كان معروفاً بعنادِه وتمسّكه بالجغرافيا. كما جاءت بعد معاركِ تحرير مدينتي منبج وكوباني. ولذلك كان واضحاً أنّ ما حدث لا يعدو عن كونه مسرحيّةً مفبركةً، قام خلالها مرتزقة “داعش” بنقلِ البندقيةِ من كتفٍ إلى أخرى وحلقوا لحاهم، واختفوا من المشهدِ. ومن جهة ثانية أدرك مرتزقة “داعش” المتغيرَ في الخطةِ التركيّةِ، فعمدت أعدادٌ كبيرةٌ منه إلى الانسحابِ من المدينةِ بعلمِ وموافقةِ المخابرات التركية” إلى مدينتي الباب والرقة.
كان لافتاً جداً اختيارُ تاريخِ العمليةِ ليتوافقَ مع معركة “مرج دابق” عام 1516، التي كانت مدخلاً لاحتلالِ السلطان العثمانيّ “سليم الأول” مدينة حلب، وبذلك أراد أردوغان توجيهَ رسالةٍ أبعدَ في دلالاتها، بربطِ الحاضرِ بالماضي، وتأكيدِ سعيه لإحياءِ التاريخِ العثمانيّ.
مسرحية في جرابلس
كانت أنقرة تتابعُ متغيراتِ الأحداثِ شمال سوريا، وأدركت أنّ من استخدمت من الوكلاءِ لتنفيذِ المهمةِ شمال سوريا قد فشلوا، ففي 13/9/2014 شنّ مرتزقة “داعش” هجوماً على مدينة كوباني، وفي 2/10/2014 كان المرتزقة قد سيطروا على نحو 350 قرية، ما تسبب بموجاتِ نزوحٍ كبيرة للأهالي. إلا أنّه خلافاً لتوقعاتِ أنقرة خاضت وحدات حماية الشعب مع حاضنتهم الشعبيّة معاركَ ضاريةً، استمرّت لمدة 112 يوماً، وأُعلنت المدينةُ محررةً من الإرهابِ في 26/1/2015، وتزامنت معاركُ التحرير مع الضرباتِ الجويّةِ المستمرةِ للتحالفِ الدوليّ.
المتغيّرُ الثاني كان عمليةَ تحريرِ مدينة منبج التي بدأت في 21/5/2016، واستمرّتِ المعاركُ ضاريةً لمدة 77 يوماً، وأُعلن تحريرها بالكاملِ في 15/8/2016، وقُتل أكثر من 1100 مرتزق، وإذ ضاق الخِناقُ على المرتزقةِ أخذوا نحو ألفي مواطنٍ كرهائن واستخدموهم دروعاً بشريّةً، ليتمكنوا من الخروجِ من المدينةِ في سلسلةٍ طويلةٍ من المركباتِ، وتوجّهوا إلى مدينة جرابلس، التي أضحت خزاناً للمرتزقة. ووسّعت قوات سوريا الديمقراطيّة الإطارَ الآمنَ حول مدينةِ منبج حتى وصلت إلى مسافةِ 16 كم من مدينةِ جرابلس.
وبذلك كانت جرابلس على موعدٍ وشيكٍ لانطلاقِ معارك التحرير، وطردِ المرتزقة، ومن مدينة كوباني أعلن عبد السلام الجادر أحد أبناء جرابلس في 22/8/2016 تشكيلَ مجلس جرابلس العسكريّ، الذي ينضوي ضمن مرتباتِ قوات سوريا الديمقراطيّة، ولم تمضِ ساعاتٌ على الإعلان، حتى تعرّض “الجادر” لعمليةِ اغتيالٍ، وارتقى شهيداً. وكان طبيعيّاً أنَّ الاستخباراتِ التركيّة هي المتهمُ الأولُ في العمليةِ.
وبمقارنةِ عملياتِ التحرير في كوباني ومنبج، والمدة التي استغرقتها، بما جرى في جرابلس يتضحُ أنّ ثمة مسرحية مفضوحة قد جرت، جهدت أنقرة ما في وسعها للتغطيةِ عليها إعلاميّاً.
أنقرة كانت تحتاجُ الحدث
التدخلُ التركيّ في الميدانِ السوريّ كان متعددَ الأهدافِ، إلا أنّ أردوغان في تلك الفترة كان مستغرقاً في تثبيتِ حكمه، وخلقِ رأي عام تركيّ مؤيد له، فلم يكتفِ بمسرحيةِ الانقلابِ المزعوم في 15/7/2016، التي تشبهُ في أدائها ومدتها ما جرى في جرابلس، إذ لم تستغرق إلا بضعة ساعاتٍ بدأت حوالي منتصف الليل، ليخرجَ مع ساعاتِ الصباحِ “بطلاً قوميّاً”. وكان يُراد في أدنى الأهدافِ من احتلالِ جرابلس تصويره نصراً يرمّمُ شعبيّة أردوغان وحزبه.
فيما تؤكّد الشهاداتُ التي أدلى أسرى “داعش” من القياديين، أنَّ أنقرة كانتِ السببَ في توجيههم والضغطِ عليهم بفتحِ معركةِ كوباني، والتي كان تتطلعُ من خلالها إلى قطعِ التواصلِ الجغرافيّ بين مناطقِ شمال سوريا، عبر خلقِ بؤرٍ إرهابيّةٍ، ومع فشل العملية في كوباني ومنبج، ارتأت أن تتدخلَ بنفسها، لتحقيق الهدف.
إلا أن التوقيتَ التركيّ والدوليّ لم يكن متطابقاً، رغم الذريعة التركيّة التي أعلنتها زوراً والمتمثلة بمحاربة “داعش” والتصدّي للإرهابِ، وضمانِ أمنها القوميّ. واضطرّت للانتظارِ للحصول على ضوءٍ أخضرٍ أمريكيّ وروسيّ لبدءِ العملية. فعملت على ابتزازِ مراكزِ القرارِ الدوليّ.