أهمية معرفة التاريخ لحاضرنا

محمود كالي –

لفهم أي ظاهرة طبيعية واجتماعية, لابد من البحث والتنقيب في جذورها التاريخية وعلاقاتها بالظواهر والقضايا الأخرى, وكذلك لابد من الإحاطة بالظاهرة أو القضية المراد دراستها وفهمها من كل الجوانب, حيث لا يمكن فهم أي ظاهرة أو قضية بشكل صحيح دون العودة إلى جذورها, كما أن الإنسان يكتسب شخصيته من طفولته, كذلك الإنسانية أساسها في بداياتها, والبدايات هي الميثولوجيا – الملاحم – القصص التي سبقت الكتابة والتدوين بمسافات طويلة, وكذلك لفهم الظواهر والقضايا المراد فهمها بشكل سليم, لابد من الإحاطة بها من كل جوانبها لنحصل على صورة واضحة وكاملة, لأن الرؤية الجزئية تخلق التشويش في معرفة المواضيع المراد فهمها, وفيما يتعلق بترابط الظواهر والقضايا مع بعضها, يؤكد علم الفيزياء الحديثة “فيزياء الكوانتوم”, أن كل موجودات الكون اللامتناهي, رغم تعدديته وتنوعه, مرتبط ببعضها البعض وتؤثر وتتأثر ببعضها بشكل مذهل, لذلك من ضرورات الفهم الصحيح, يجب دراسة المواضيع والظواهر والقضايا من خلال علاقاتها وترابطها مع بعضها البعض, والمثال الأبرز على ذلك تأثير الجغرافية والمكان والمناخ على مسار التطور المجتمعي, فبانقضاء العصر الجليدي الرابع قبل عشرين ألف سنة, تمكنت المجموعات البشرية التي انطلقت من شمال شرق أفريقيا بمحاذاة البحر الأحمر إلى شرقي البحر الأبيض المتوسط, استوطنت منطقة الهلال الخصيب وسلسلة جبال طوروس وزاغروس, كنهاية طبيعية لخط الريف الناشئ من تصدع قشرة الكرة الأرضية, وتؤكد الأبحاث العلمية الجامعة بأن البشرية عاشت العصر الميزوليتي في مزوبوتاميا ومهّدت الطريق أمام ظهور عصر النيوليتي حيث ثورة الزراعة وبناء القرى والاستقرار, وبوجود مناخ معتدل في تلك المنطقة انطلقت الثورة المجتمعية الكبرى, مع تطور اللغة والفكر والثقافة الناشئة بحيث تخطى المجتمع الإنساني وللمرة الأولى الشكل الكلاني نحو شكل مجتمعي أكثر رقياً وأكثر توسعاً (بداية تبلور القبيلة والعشيرة) تولت ريادتها المرأة الأم. وللفهم الصحيح للتاريخ لابد من معرفة أهمية سلسلة جبال طوروس وزاغروس كمهد للبشرية ومكان لنضوج اللغة الرمزية ومنطقة الثورة المجتمعية الكبرى, حيث يؤكد العالم والمؤرخ الأمريكي (روبرت جون بريد ويد) أثناء بحثه وتنقيبه لآثار قرية “جرمو” الكردستانية: (لا يمكن للحياة أن تكون ذات معنى في أية بقعة من العالم مثلما هي عليه في حواف قوس سلسلة جبال زاغروس وطوروس).

إن الاختصار على الأساليب التحليلية الحاضرة في معرفة الظواهر الاجتماعية دون البحث في واقعها ضمن نطاق تاريخيتها سيكون إدراكاً مشوباً بالأخطاء, لأن التاريخ هو عبارة عن سلسلة مترابطة ومتواصلة, متجددة في كل لحظة, وما نعيشه اليوم من مشاكل وقضايا هي تاريخية, لأن التاريخ هو واقع لحقيقة المجتمعات, والمجتمع الذي يجهل تاريخه هو أشبه بالإنسان الذي فقد وعيه, إذ لا حياة صائبة مع التاريخ الخاطئ.

اهتم الكثير من العلماء والفلاسفة والمؤرخين بدراسة القضايا الاجتماعية والتاريخية وكان بنتيجته ظهور عدة مدارس ومناهج، لعل أهمها:

• المدرسة السردية الكرونولوجية لعرض الوقائع والأحداث دون ربط الأسباب بالنتائج.

• المنهج الهيغلي حيث يعرف التاريخ على أنه حركة منطقية جدلية تستخدم فيها الشعوب الأدوات في تحقيق النمو والتطور نحو الحرية, ويرى أن المبدأ الأساسي للتاريخ هو التغيير, إذ لا شيء خالد.

• المنهج الماركسي, يرى أن التاريخ يتمثل في الصراع الاجتماعي والطبقي والذي يؤدي إلى التحول من نمط إنتاج إلى آخر, أكثر تقدماً وتطوراً.

• المنهج السارتري, يؤكد أن التاريخ ليس قدراً أو قوى تتحكم بالإنسان, إنما هو من يصنعه ويحوله عملياً ونظرياً, أي ان التاريخ يعتمد على وعي وإرادة الإنسان.

• منهج ابن خلدون, يعتبر التاريخ هو سيرورة العمران البشري، والمعرفة التاريخية هي تدوين لهذه السيرورة، ويضع ابن خلدون مفهومي ظاهر وباطن التاريخ, يعرف ظاهره بأنه سرد لأخبار الدول وأصول الماضي, أما باطن التاريخ فهو تحقيق دراسة وتحليل وعلم بالكيفيات والأسباب.

وهناك مناهج ومدارس وتقاربات كثيرة لدراسة التاريخ رغم اهمية وصوابية آرائها في بعض الجوانب, إلا أنها وللأسف بقيت قاصرة في فهم التاريخ بشكل صحيح, لأنهم جميعاً انطلقوا من المكان الخطأ, حيث بدؤوا بدراسة التاريخ من الكتابة والتدوين, أي من ظهور السلطة والدولة, فكان تجاهلاً لتاريخ الشعوب والمجتمعات (أفراحهم, أتراحهم، أحاسيسهم, نمط عيشهم) ومن خلالها تم طمس حقيقة البشرية وتاريخها الطويل, بحيث تم نعت المجتمعات البشرية قبل ظهور الدولة بالمجتمعات المتخلفة والمتوحشة, علماً أن السلطة والدولة هي مصدر ومنبع كل المصائب والمشاكل المعاشة اليوم.

المفكر والفيلسوف عبدالله اوجلان من خلال الدراسة المعمقة للتاريخ والمجتمعات, أثبت بالأدلة والبراهين أسبقية وجود المجتمعات البشرية ما قبل السلطة والدولة, حيث أسماه بالمجتمع الطبيعي القائم على الحرية والعدالة والمساواة, المجتمع الخالي من الحروب والصراعات الدموية والاستغلال والاحتكار, بل رأى في ظهور الدولة والسلطة انحرافاً في مسار التطور المجتمعي, ورأى في الدولة كارثة على المجتمعات البشرية. حيث وصف ظهور الدولة كأقذر ثورة مضادة للتاريخ. مفاد القول أن عدم إدراك البداية بشكل صائب, سينتج عنه نتائج غير سليمة, لذلك رأى المفكر أوجلان ضرورة مداخلة التاريخ لتصحيحه, لأنه لم يتم كتابة أي علم بشكل منحرف أكثر من التاريخ من طرف القوى الاستغلالية المهيمنة. ولتصحيح الفهم التاريخي يرى ضرورة سسلجة التاريخ وتأرخة السيسيولوجيا, كما يؤكد على فهم التاريخ ضمن الأبعاد الكونية الشاملة, لاستحالة إضفاء المعاني على التواريخ المحلية دون التاريخ الكوني, لان أي تجزئة للتاريخ والعلوم يعني تجزئة للحياة والحياة كونية، ولا يمكن تجزئتها.

يؤكد المفكر أوجلان أن التاريخ يمر بثلاث مراحل:

• المجتمع الطبيعي أي المجتمع الأخلاقي والسياسي الذي يمثل الأصل والحقيقة التاريخية, يقول بهذا الصدد: البحث عن الحقيقة التاريخية والمجتمعية خارج المجتمع الأخلاقي والسياسي هو هباء.

• مرحلة المجتمع السلطوي والدولتي: هو نظام منحرف عن طبيعة المجتمع ومضاد له, ويرى في العبودية والإقطاعية والرأسمالية أشكالاً للمجتمع الطبقي السلطوي الجنسوي.

• مرجلة المجتمع الديمقراطي والتي هي الحل من خلال إرجاع التوازن الطبيعي للمجتمع بعد أن جزأته السلطة والدولة وإرجاع دور المرأة الطبيعي كخالقة للحياة وإنهاء كافة الإشكالات المخالفة للسيرورة الطبيعية وحل قضية الأيكولوجية لإعادة التوازن والتواؤم بين الطبيعة والمجتمع.

النتيجة أننا نتلمس الحقيقة الساطعة في عالمنا اليوم بأن تقييم الأحداث بعين تاريخية لأنه كما يؤكد المفكر أوجلان (نحن في بداية التاريخ والتاريخ في يومنا), لأن التاريخ ليس أحداثاً فاتت ومضت, بل إنها حية تعيش في كلماتنا وأسمائنا وجبالنا وسهولنا وقرانا وعشائرنا في الأمثال والحكم, وإن لم نستطع فهم حقيقة التشوهات التي أصابت فكرنا وذهننا, سوف لن يكون باستطاعتنا امتلاك توجه سليم في الحياة مستقبلاً.

ولفهم الحقيقة التاريخية لابد من تخطي براديغما الحداثة الرأسمالية كلياً, لأن البراديغما ستلعب دورها في طمس الحقيقة وتجريدها من معانيها بدرجة كبيرة.