تحقيق/ فيروشاه أحمد –
لازم الدستور كظاهرة تاريخية وحضارية الإنسان منذ بدايات تشكل الحضارات والدول، ويبقى للشعوب الفضل في تمكين وإبراز قدراته والعيش في حرية وعدالة من خلال نضالاته السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية، وتطويرها للأفضل من خلال مكتسبات دائمة من الحاكم، وتطوير هذه المكتسبات كي يمارس كل فرد حقه الطبيعي وواجباته الوطنية، حتى لا يعبث بهذه الحقوق أي سلطان جائر.
ويبقى لكل دولة دستور يميزها عن غيرها من الدول، بما يحتويه من فصول ومواد تختلف في الشكل والمضمون، وتتحول إلى سلوك يومي لكل فرد، من هنا يمكن القول بقدر ما يتغير الدستور نحو الأفضل؛ بقدر ما يلاحظ ظهور ثقافة ذاك الشعب، ويعبر عن مدى تطور ذاك المجتمع، من خلال زج كل خبراته وتجاربه حتى يرتقي بمجتمعه نحو الأفضل، لهذا نجد أن هناك تنوعاً في أشكال وسياقات الدساتير، من خلال تنوع الأنظمة وارتباطها بالشكل الثقافي الموروث والحفاظ على الشكل الاجتماعي والسياسي والاقتصادي.
الدستور بكل المقاييس هو تعبير عن انتصار إرادة الشعوب، وما نلمسه اليوم في كثير من الدول من توفير لمبادئ الديمقراطية والعدالة ما هي إلا نتيجة تلك الانتصارات الشعبية ومنذ مئات السنين ضد السلطة والهيمنة.
ماهيه الدستور
الدستور كلمة فارسية مركبة ومؤلفة من كلمتين:
دست: وتعني القاعدة.
وّر: وتعني صاحب.
والدستور هو: القانون الأعلى الذي يحدد القواعد الأساسية لشكل الدولة، وينظم السلطات العامة فيها. وكلها تعني: التأسيس أو التكوين أو النظام، وهي في الوقت نفسه مجموعة مبادئ أساسية منظمة لسلطات الدولة، المبنية على حقوق كل من الرئيس والمرؤوس.
يمكن أن نلاحظ وعبر التاريخ بأن الدستور له نوعان: الدستور غير المدون: وهو عبارة عن أخلاقيات وثقافات وقواعد وأعراف، واستمر العمل به حتى بداية سومر 3500 وكانت هذه الأعراف والثقافات والأخلاقيات تخدم السوية المجتمعية. والدستور المدون: أغلب قواعده مكتوبة في وثيقة أو عدة وثائق رسمية صدرت من المشروع الدستوري.
من الملاحظ أن الدساتير وقبل تدوينها كانت عبارة عن ثقافة وأعراف تنظم حياة المجموعات والجماعات والأقوام، إلى أن بدأت أول الحضارات (سومر) بالكتابة وأرشفة معظم حياتها السياسية والاجتماعية والفنية والثقافية، وفي العصر الحديث أصبح الدستور كالعمود الفقري يحمل الدولة كي لا تتعرض للسقوط، وينسب أول دستور إلى القرن الثالث عشر ميلادي سنة 1215م عندما منح الملك جون ستير الميثاق الأعظم (ماغنا كارتا) للنبلاء الإنكليز الخارجين عليه.
بعض المهتمين ينسبون ظهور أول دستور إلى أمريكا في القرن السابع عشر، حين وضع الجناح المؤيد للقائد العسكري البريطاني أوليفر كرومويل في المجلس العسكري دستوراً لتنظيم السلطة في أمريكا، ويرجح البعض بأن فكرة كتابة الدستور انطلقت من المستعمرات البريطانية بأمريكا الشمالية بعد الانفصال عن إنجلترا، كدستور فرجينيا 1791م، ثم تتالت المشاهد في كثير من الدول بكتابة دستورها بالشكل الذي تراه مناسباً لها، ففي فرنسا وبعد الثورة أصدر أول دستور لها عام 1791م، هذه التطورات وغيرها لم تأت من فراغ أو هبة من الأنظمة، بل نتيجة تطور الحاجة إلى الديمقراطية من خلال نضالات الشعوب من أجل التحرر والانعتاق والدخول في مصالحة مع الأنظمة من خلال دستور أو عقد اجتماعي يتفق عليه الطرفان، ويعتبر القرن الثامن عشر من أكثر القرون التي تبلورت فيه الدساتير نتيجة حركة التنوير التي أصبحت حاجة معرفية وفكرية وأيديولوجية تساهم في تنظيم الحالة الاجتماعية في الدول، واقترنت هذه التطورات بالتطور الصناعي وبخاصة في أوروبا (أمستردام أنموذجاً).
الدستور في المشهد السوري
أما ما يخص المشهد السوري ومنذ بداية الأزمة فيها تعرض الدستور وصياغاته إلى مفارقات وتباينات، كون سورية تعيش مرحلة انتقالية وغير مستقرة سياسياً واقتصادياً وأمنياً واجتماعياً، ولا يخفى على أحد بأن التسويات السياسية بين المتصارعين في الداخل والخارج، قد يعطي شكلاً جديداً للدستور ترتبط بأجنداتها وسياساتها المستقبلية، تلغي أو تقصي أطراف أو مكونات من العملية السياسية في سورية.
من جهة أخرى قد يتأثر صياغة الدستور بالصراع القائم بين الاتجاهيين الديني والمدني، أو بين الأيديولوجيات أو بين الطوائف أو الأعراق، في هذه الحالة يتطلب مصلحة الوطن والمواطن أولاً، باختيار دستور يحضن الكل في إطاره القانوني؛ لأن المصلحة الوطنية العليا بالنتيجة تقتضي بأن يكون شكل ومضمون الدستور تعزيزاً وحصناً وبيتاً لكل المختلفين، والابتعاد عن المصلحة السياسية والقومية والدينية والطائفية حتى الشخصية، من هنا يجب التأكيد على جانب واحد لا غير وهو: «ليس المهم صياغة الدستور فحسب بقدر ما يهم أن ينفذ ويطبق كل فصوله وبنودة وبشكل ديمقراطي وحر».
بدايات الدستور السوري