بدا الموقفُ الروسيّ إزاء منطقة شمال وشرق سوريا عدائيّاً قبل العدوان، وهو الذي شكّل المستند المباشر لأنقرة لتقوم بالعدوان على شمال وشرق سوريا وهو ما يمكن اعتباره انتقالاً مباشراً من ضفة محاربة الإرهاب إلى استثماره، عبر أنقرة وكلّ المرتزقة الموالين لها.
قبل العدوان؛ شنّت موسكو حملة انتقادات للوجود الأمريكيّ، ليكون ذلك مقدمة العدوان التركيّ، ولعلها أرادت إحراج الأمريكيّ والنيل من هيبته، وهذا ما تجلى بارتباكِ واشنطن، فلا هي قادرة على منع العدوان ولا الدخول فيها، وبذلك تناقضت تغريدات ترامب لإيجادِ مبررٍ لقرار سحبِ قواته، فيما كان الانتقاد كبيراً من الشخصيات والمؤسسات الرسميّة الأمريكيّة؛ ذلك لأنّ الهيبة الأمريكيّة باتت على المحكّ. وصحيحٌ أنّ واشنطن كانت قد درست فعلاً إجراءات الانسحابِ من المنطقة. ولكن؛ من المؤكدِ ليس بهذه الطريقة، عبر شكلٍ أقرب للإملاء وفي ظروف زعزعت الثقة بها.
بعد العدوان كان موقفُ موسكو ينطوي على تجاهلٍ واضحٍ للحقائقِ، فالحربُ سلوكٌ إرهابيّ والمرتزقة الذين تقودهم أنقرة مارسوا أفعالاً إرهابيّة على مرأى العالم، والمنطقة المستهدفة كانت آمنة بعد معارك طويلة ضد الإرهاب، فيما تكتفي وزارة الخارجية الروسيّة بالإعراب عن مشاعر القلق إزاء الوضع في شمال سوريا، ولكنها استثمرت “الشبق العثمانيّ” وهوس أردوغان بالعدوان على شمال سوريا لتحصرَ القرارَ الأمريكيّ بالزاويةِ وتواصلَ إنفاذَ خطتها في سوريا.
المعروفُ عن موسكو تعويلها على الصراعِ المسلحِ لحلّ الأزماتِ وهذا ما قامت به في سوريا فعلاً، ومن ثم تدفعُ المسائل باتجاه المفاوضاتِ استناداً لمعطيات الميدان، أي فرض الشروط بالقوة، وكل عمليات المصالحة في مناطق سوريا كانت مسبوقة باستخدام القوة العسكريّة المفرطة والكثافة الناريّة، ولذلك فحديثُ موسكو عن الحوار لا يتجاوز الإعلام والمواقف السياسيّة. واليوم وبعد العدوان راحت موسكو تقود المفاوضات بين كلّ الأطراف حتى بين دمشق وأنقرة.
عارضت موسكو مشروع قرار بمجلس الأمن حول العدوان على شمال سوريا، وعرقلة مشروع قرارٍ أمريكيّ في اليوم التالي، وفي الوقت نفسه؛ تقول الخارجيّة الروسيّة على أنّه “لا يمكنُ تحقيقُ السلامِ والاستقرارِ في هذا الجزء من الأراضي السوريّة ذات السيادة إلا من خلال حوار فعّال واحترام متبادل للطرفين بين الحكومة (السوريّة) والكرد، الذين هم جزء لا يتجزأ من المجتمع السوريّ”. وأكدت أنّها مستعدة لتسهيل مثل هذا الحوار، أي حوارٌ بالشروطِ القياسيّة الروسيّة ووفق خطتها (أستانه، سوتشي) واغتيال القرار الأممي 2254.
وفيما يتابعُ العالم كله المشاهد الدمويّة وسقوط ضحايا من المدنيين والأطفال تواصل موسكو حديثها عن الاستقرار واستبعاد معاناة السكان المدنيين هناك. والأنكى أن دعوتها “جميع الأطراف إلى ممارسة أقصى درجات ضبط النفس والتحقق بعناية من الخطوات المتخذة، مع الاحترام التام لسيادة سوريا ووحدتها وسلامة أراضيها”. وهو شكل سافرٍ للمساواة بين الجلاد والضحية.
اليوم موعدٌ جديد لجلسة مغلقة لمجلس الأمن الدوليّ حول العدوان التركيّ على شمال سوريا فيما توقعات المراقبين تستبق الجلسة وتشكك بالنوايا الروسيّة، وإذا كان العدوان قد وضع هيبة واشنطن على المحكّ، فإنّها بالمقابل قد وضع المصداقيّة الروسيّة على محكّ الاختبار، وهي قضية أخلاقيّة بامتياز.