تحقيق/ عبد الباري أحمه –
منذ أكثر من خمسة آلاف عام، بات الصراع واضحاً بين الساسة والمثقفين، حين تسلَّق الرجل من خلال ذكوريته سلَّم المجد الواهي، لابساً أقنعة من الوهم والخديعة، وقد اختبأ في زيغوراته!.
اختبأ خلف سلطته وهيمنته، التي بقيت تلتهم كل مفاهيم المثقف المجتمعية المشبعة بالثقافة الإيكولوجية التي عنوانها المرأة والبيئة، هذا النوع من المثقفين لم يرضخ لغرائزية السلطة والدولة، بينما وجد بعض المثقفين أنفسهم يلتهمون موائد السلطان، ويرتدون عباءة السلطة ومن ثم يكتبون ما تُملي عليهم تلك الموائد، كي يصبحوا أبواقاً للسلطان في أزقَّة وأحياء المجتمع.
هل التناقض بين المثقف والسلطة بات إشكالية تاريخية قوامها الثقافة المتناقضة، أم تناقض الثقافتين هو من أجَّل الحلول إلى وقتنا الحاضر؛ ومن هنا نجد أنَّ في المحور ثلاثَ إشكالياتٍ، تتناغم أحياناً وتتصارع أحياناً أخرى، ومن الفائدة أن نتعرَّف على هذه المتناقضات الثلاث.
تعاريف
السياسة: بعد أن تجردت السياسة من مفهومها الصحيح؛ باتت مثل الكثير من المصطلحات لا يمكن وضع تعريفٍ واحدٍ وخاصٍ بها، لأنها تشمل نواحٍ ومجالاتٍ عديدة ومتداخلة في الحياة، ولكن قد تتوافق بمجموعة قواسم مشتركة، منها أنها حزمة من الأنشطة التي تتعلق بالتأثير على إجراءات وسياسات حكومة ما، وهي مجموعة مهام ووظائف يقوم بها نخبة من الشعب، كونهم يمتلكون آراءً وأفكاراً قد تكون مفيدة ومهمة للشعب.
ومن خلال هذه الآراء يعالجون الأمور باختيارهم لغةً قد تسهم في حل مشاكل الدولة والمجتمع، أو بين الدول والمجتمع، فهي بالتالي قدرة طرف على فرض إرادته على طرف آخر؛ لأن السياسة بطبيعتها تتألَّف من أطراف متفاوتة القدرة على التحدِّي والمنافسة. الثقافة: وهي أيضاً لها أكثر من تعريف واحد، وقد أكَّدت أغلب التعريفات على أنَّها تحتوي على المعرفة والمعتقدات والأخلاق والقانون والعادات، ولكل مجتمع منظومة سلوكية تختلف عن الآخر، البعض قال: إنَّها (دماثة الخلق) وهي بالمحصلة تهدف إلى الكمال من خلال التعرُّف على أفضل ما تمَّ التوصل إليه من فكر وجمال وروح.
الثقافة بمفهومها الصحيح هي مجموعة قيمٍ مجتمعيةٍ، لكن الأنظمة وضعتها في خدمتها فباتت تخدم السلطة.
ـ الثقافة الخادمة للسلطة: هي التي وضعها النظام في خدمته وتحدد شرعية النظام، وتعمل على ربط علاقة الفرد المواطن بالسلطة، وتحديد دوره وواجباته، ومن ثم ترسم له ملامح هويته وثقافته ضمن المجتمع المُؤطَّر، وبالمحصلة فهي مجموعة قيم تتعلَّق بتحديد مفهوم المواطن بالسلطة وشرعيتها.
ــ الثقافة المجتمعية: الثقافة المجتمعية من أرقى أنواع الثقافات التي رافقت الإنسان منذ أكثر من عشرة آلاف سنة، وهي ثقافة الثورة الزراعية الطبيعية التي كانت تنعكس على المجموعة بسويَّة العلاقات في المأكل والمشرب والملبس، وتُؤكِّد على الارتباط القوي بينهم، لأنها بالنتيجة تعمل على خلق إنسانٍ حر. المثقف: صفة للشخص الذي يعمل على استخدام ذكائه وفكره ونقده من أجل حل مشاكل مجتمعه، وتجاوز العوائق، ويرتقي بالمجتمع إلى نظامٍ اجتماعي أفضل، أكثر عقلانية وإنسانية، وهو أي المثقف؛ يمتلك قدْراً من الثقافة يجعله يمتلك نِظرة كلية وشاملة لمجتمعه، ولا يمكن أن يكون كذلك إذا لم يكن مبدعاً.
السلطة: لكل فلسفة أو تيار أو أيديولوجية تعريفٌ خاصٌ بها حول مفهوم السلطة، إذ أن أفلاطون ربطها بالأخلاق والعقل، أما ماركس فقد ربطها بالاقتصاد، في حين نجد هوبز يُؤكِّد على وجود السلطة لفرض سيطرتها على الأفراد وإخضاعهم لمنظومةٍ قانونية، لكن ميشيل فوكو خالف الكل حين قال مؤكداً: على أنَّ السلطة هي من أجل التمييز بينها وبين القوة، وهكذا نجد الاختلاف الواضح بين كل تعريف، فقط باكونين يُوضح لنا بقوله: إنَّ السلطة تفسد الناسَ؛ كلَّ الناس بدون استثناء.
إشكالية تاريخية
بعد انكماش العصر الجليدي الرابع في أعالي ميزوبوتاميا قبل عشرين ألف سنة، خرج الإنسان من الكهوف والمغاور(كهف شنادر) يبحث عن لقمة العيش من خلال الصيد والتقاط الثمار، وكانت المجموعات البشرية وقت ذاك قليلة جداً، والمرأة هي من كانت تقود المجموعات تلك، وقد اختارت وأبدعت ثقافةً مجتمعيةً تناسب كل احتياجات المجموعة.
هذه الثقافة تكللت بأعظم ثورة في التاريخ، حين التقطت المرأة حبَّة الحنطة وزرعتها وأخرجت رغيفاً للكل، فتطورت مع هذه المرحلة أدوات الإنتاج، وتطورت ثقافة المجموعة أيضاً، حتى باتت ثقافةً كونية كنهر متدفق يسير نحو كلِّ الجهات بفضل الأم الآلهة.
بقيت هذه الثقافة المجتمعية تسود المجموعات البشرية حتى الألف الرابع قبل الميلاد، حين شمَّر الذكور عن أنياب ثقافتهم واعتلوا زيغوراتهم ليعلنوا عن سلطتهم من خلال مفاهيم سياسية قوامها الهيمنة على الإنسان والطبيعة، ولم ينتهِ المشهد السياسي والاجتماعي ولا الثقافي بهذا الشكل، بل بات الصراع قائماً وواضحاً بين السياسي الذي يمثِّل السلطة والهيمنة وبين من يحمل في ذاكرته تلك الثقافة المجتمعية، فكانت هذه المرحلة بداية للغزو والعبودية، واحتدم الصراح أكثر من خلال الحروب والقتل والتهجير جرَّاء قوة السلطة وتقهقر الثقافة المجتمعية.
فدخلت المنطقة كلُّها في ظل العبودية، بعد أن عمل الساسة على الفرز والتمييز الطبقي والاجتماعي، فأصبحت المرأة وثقافتها ومن يؤمن بها في الدرك الأسفل من السلم المجتمعي بعد أن أعلن السياسي نفسه ملكاً إلهاً، يحيط به الكهنة الذين يمثلون الثقافة الجديدة.
ثقافة رسَّخت العبودية، بينما باتت السلطة تحرس وبالقوة ذاك الملك المقنَّع وتقمع تلك الثقافة الكونية، فأصبح هذا المشهد السلطوي سائداً من خلال السياسة القمعيَّة لكلِّ ثورة أو عصيان أو تمرُّد في وجهه، ولم تكن المرحلة الثانية التي انتقلت فيها السلطة إلى ساسة جدد يحملون ثقافة أخرى، وهي إخراج المجتمع من زيغوراته إلى الأرض ليعمل بها ليلاً نهاراً ولينام في قن دجاجاته. هذا التحول الثقافي لم يضف لحياة المجتمع إلا عذابات جديدة، واستغلال لجهده وكدحه، كون الذي يعمل في أعلى الهرم السياسي لا يأبه إلا بالربح فقط، فجاءت طفرة البرجوازيين في منتصف القرن السادس عشر الميلادي، عندما أعلن عن ماهيته من خلال نظرية ثقافية وسياسية أكثر بشاعة من سلفه، ومن هنا بدأت الصراعات واضحة بين هذه الثقافة الفردانية والأنانية والتي يؤكِّد عليها الساسة، وبين تيارات ما زالت تعمل وتحلم بعودة الثقافة المجتمعية، فاجتاحت البشريَّة ثورات وحروب واختلطت الآراء وانقسم الناس بين الثقافتين من خلال قمع السلطة للثقافة الأصل كي يبقى ذاك السياسي في برجه العاجي يحصد كلَّ الأرباح. خلال هذه الفترة كان المثقف في تنقُّل بين الطرفين، ولا يحلو له الاستقرار في جهة واحدة، وكونه يمتلك أدوات الحل كانت المساومات مع السياسي أمراً وارداً، لهذا كانت الانكسارات تلاحق الثقافة المجتمعية في أكثر المحطات.
توافق المصالح
في بدايات القرن العشرين احتدم الصراع أكثر بين المثقف والسياسي، من خلال التناقضات الصارخة بينهما وظهور نظريات وفلسفات عديدة يعتمد عليها كلٌّ من الطرفين؛ فالسياسي يعتمد على السلطة والمثقف يعتمد على الجماهير، السياسي يستخدم الميكيافيلة ونصائحها في استغلال الإنسان والموارد، والمثقف يُؤمن بمفاهيم كرامشي من كون المثقف مثقفاً عضوياً في المجتمع يتبنَّى مصالحه وينتصف له من السياسي، هذا وقد انقسم المثقف على نفسه فمرة ينتهز فرصة من السلطة كي يحافظ على ذاته وبعض امتيازاته، ومرة ينخرط في صفوف المجتمع والثورة كمراقب لنتائج تلك الثورة أو ذاك التغيير. مرض يجتاح صفوف المثقفين، مرضٌ يساريٌّ طفولي، وأحلامٌ من اليمين تجتاح جنباته، لا الوسط يرضيه ولا السكينة تشبعه، فبات تائهاً في جنبات المجتمع، وأحياناً تستهويه موائد السياسي. وفي عصر الحداثة ارتقت المفاهيم الليبرالية أكثر من خلال اعتمادها على براديغمات تحول دون سقوطها، وكأنها تعتمد على شعرة معاوية كي تبقى الجماهير مستسلمة لقرارات السياسي الذي اعتمد في الوقت نفسه على مؤسسات شبه مجتمعية تضمن للفرد حريته وتحقِّق له كل طموحاته، في حين بقي المثقف عاجزاً عن تحقيق هذه الإنجازات لمجتمعه، فاستغل كل طاقاته كي يحظى بمرتبة متقدمة في صفوف السلطة. بات الآن التوافق واضحاً بين السياسي والمثقف؛ كلٌ يعمل بأدواته كي تبقى مفاهيم الثقافة الليبرالية سائدة بين الناس والسلطة (أوروبا أنموذجاً) وكأن نظرية نهاية التاريخ باتت حقيقية واضحة وجلية للعيان، بينما في مجتمعات الشرق الأوسط نجد الصراع قائماً بين السياسي والمثقف، فالسياسي يعتمد على خطابات قوموية أو دينية يدغدغ بها أحلام مجتمعه بيوم أفضل، في حين نجد المثقف يرفع صوته عالياً في الأقبية والسجون تارة، وتارة أخرى يستسلم للسلطة ويصبح بوقاً لانتصاراتها الدونكيشوتية. وهذه الازدواجية والانتهازية في ممارسات المثقف أقنعت الناس بأن لا طائل من جعجعة المثقف في متاهات تحدِّيه لآلة السلطة التي تستبيح لنفسها كلَّ السلوكيات التي تُجدِّد من ديمومتها وتأجيل الثقافة المجتمعة لعصور أخرى.
اعتقال الرأي