روناهي/ الرقة ـ داخل أحد أحياء مدينة الرقة، تعكف “رنا خضر”، وهي امرأة من دير الزور، على ترتيب باقة ورد يدوي بعناية لافتة. تحيط بها أدواتها البسيطة، لكنها تصنع منها فناً ينبض بالحياة. لم تكن هذه المهنة مجرد مصدر دخل إليها، بل كانت طوق نجاة انتشلها من ظروف قاسية فرضتها الحرب، وحوّل المأساة إلى قصة نهوض تستحق التوقف عندها.
“رنا خضر”، البالغة من العمر 45 عاماً، من مقاطعة دير الزور، وجدت نفسها وحيدة في مواجهة الحياة بعد فقدان زوجها عام 2018، لتتحمل مسؤولية تربية ست فتيات في ظل تدهور الأوضاع الأمنية والمعيشية في سوريا. لكن؛ قصتها لم تبدأ هناك.
رحلة من الهواية إلى مصدر رزق
في لقاء خاص لصحيفتنا “روناهي“، قالت رنا: “منذ طفولتي وأنا أحب الأشغال اليدوية، كنت ألعب بالخيوط، أطرّز، أعمل على التريكو، وكل شي فيه فن كان يلفتني”.
بعد تخرجها من معهد الفنون النسوية، تحوّلت تلك الهواية إلى مهارة متقنة، وبدأت تمارسها من منزلها في دير الزور، حيث صنعت قطعاً فنية كانت تبهج بها صديقاتها وجيرانها.
لم تمضِ سنوات طويلة حتى اجتاحت الحرب دير الزور. فقدت رنا أقاربها، وتشتت عائلتها، واضطرت للنزوح مع بناتها إلى مدينة الرقة بحثاً عن الأمان. هناك، لم يكن بيدها سوى ما تعلّمته طوال حياتها.
“كنت مضطرة أبدأ من جديد، ما كان عندي أحد، ولا مصدر دخل، قررت أشتغل بأي شي أعرفه، والورود، والتطريز، والأشغال اليدوية”.
في البداية، عملت في محل لتنسيق الورود، وساعدت إحدى صديقاتي، وهناك طورت مهاراتها، وتعلمت أساليب جديدة في التعامل مع الألوان والخامات.
وقف المرأة الحرة.. محطة مفصلية
كان التحوّل الأبرز في حياة رنا حين عرفت عن “وقف المرأة الحرة” في مقاطعة الرقة، وهي مؤسسة تهتم بتمكين النساء ومساعدتهن على إطلاق مشاريعهن الصغيرة: “عرضت عليهم عملي، ما توقعت يتفاعلوا بهذه الطريقة، لكنهم انبهروا بالتفاصيل والدقة، وقرروا دعمي”.
بفضل الدعم المادي والمعنوي من الوقف، أطلقت رنا مشروعها الخاص في تنسيق الورود اليدوية، وأصبحت تشارك في معارض محلية، وتبيع منتجاتها في الأسواق باسمها الصريح، بعد أن كانت أعمالها تُنسب لأصحاب المحلات التي عملت فيها سابقاً.
“هاد الشغل اليوم هو اسمي، تعبي، تعبير عني وعن شخصيتي، مو مجرد مهنة”، بهذه الكلمات عبرت رنا عن فخرها بما تحققه، وهي تستعرض بعض الأساور وتنسيقات الورد التي صممتها من خامات بسيطة أو معاد تدويرها، موضحة كيف تمكنت من خلق جمال من لا شيء.
رسالة للنساء.. “الموهبة ليست عبئاً”
رنا اليوم ليست فقط أماً ومعيلة لأسرتها، بل صارت نموذجاً للمرأة القادرة على النهوض بذاتها رغم الظروف.
تختم “رنا خضر” حديثها، بنصيحة لكل امرأة تمتلك موهبة: “أي شخص عنده مهارة، لازم يشتغل عليها، ما يستهين بنفسه. حتى لو ما صارت مصدر رزق، فهي بتعبّر عن الذات، وبتخلي بصمة بالحياة”.
بين خيوط التريكو ونبض الورود، نسجت “رنا خضر” قصة حياة ملهمة لنساء كثيرات في سوريا، ممن فقدن الأمن والاستقرار، لكنهن لم يفقدن الأمل.