د. طه علي أحمد
لطالما وقعت ما تسمى بالأقليات في العالم العربي في موقعٍ حساس ضمن مشاريع الهيمنة أو الحماية، وخصوصًا عندما يتعلق الأمر بجهات خارجية تحاول إعادة تشكيل خريطة النفوذ الإقليمي على أسس طائفية أو إثنية. وفي هذا السياق، مثّل الدروز – بحكم خصوصيتهم العقائدية وتنظيمهم الاجتماعي المغلق – مادةً مثالية لمحاولات توظيفهم في مشاريع تقسيمية، وعلى رأسها التصورات الإسرائيلية حول تفكيك سوريا ولبنان، لكن هذا التوظيف لم يكن دائمًا ناتجًا عن إرادة داخلية درزية، بل غالبًا ما تم تحميل الطائفة بأدوار ووظائف تتجاوز خياراتها الذاتية، في إطار خطاب استراتيجي يختزل الطوائف في بعدها الأمني أو الجيوسياسي فقط.
في هذا الإطار، دأبت النخبة الأمنية والسياسية في إسرائيل على النظر للأقليات مثل الدروز وغيرهم باعتبارهم يشكلون نقاط ضعفٍ ممكن داخل دول المنطقة، حيث يمكن استثمارها لتحقيق اختراقات استراتيجية، وقد تجسد ذلك في محاولات خلق كيانات شبه مستقلة، كما في نموذج “الدولة العلوية” المفترض في الساحل السوري، أو “الدولة الدرزية” في السويداء، كما ورد في أكثر من دراسة استراتيجية إسرائيلية بين 1980 و2005، لكن هذه الرؤية التبسيطية تفترض أن الطائفة ككل يمكن أن تتحول إلى شريك أو وكيل، دون أن تأخذ بعين الاعتبار الهياكل الداخلية المعقدة للهوية الدرزية، وارتباطها بالمكان، والانتماء الوطني، والخطاب التاريخي المناهض للاستعمار. أي أن إسرائيل أخطأت في تقدير أن ولاء الطائفة قد يُشترى بــ “الدعم” أو يُعاد تشكيله وفق متطلبات تفكيكية.
ومن المفارقات فيما يتصل بالمحاولات الإسرائيلية لدمج الدروز في إسرائيل ومحاولات عزلهم خارجيًا أن واحدةً من التناقضات الكبرى في السياسة الإسرائيلية تجاه الدروز تكمن في أنها تدمجهم في مؤسسات الدولة داخل الخط الأخضر، عبر الخدمة العسكرية والتمثيل البرلماني، وتمنحهم وضعًا قانونيًا خاصًا. وفي الوقت ذاته، تسعى إلى توظيف الدروز في سوريا ولبنان كأداة لتفكيك تلك الدول، عبر دعم مشاريع انفصالية.
هذا الانفصام السياسي يعكس استخدامًا وظيفيًا للطائفة لا رؤية شراكة حقيقية معها، وهو ما خلق – تدريجيًا – تيارًا درزيًا ناقدًا للسياسات الإسرائيلية، سواء داخل الجليل (كما في احتجاجات دروز إسرائيل ضد “قانون القومية” عام 2018)، أو في جبل العرب، حيث حافظ الدروز السوريون على خطاب سيادي حتى في أكثر مراحل القمع.
لكن هنا يبقى السؤال: لماذا فشل المشروع التقسيمي في البيئة الدرزية؟ في هذا السياق يمكن القول بأنه رغم المحاولات المتكررة، لم تتحول الطائفة الدرزية إلى رافعة لمشروع تقسيمي في أيٍّ من المحاور، وذلك للأسباب التالية:
- البنية العقائدية الدرزية تُقيّد الانخراط السياسي خارج إطار الدول: فالمذهب الدرزي، الذي يقدّس “السرّ” و”الانضباط الاجتماعي”، لا يسمح غالبًا بنقل القرار السياسي من يد المشيخة الدينية إلى أي جهة خارجية، مما يضعف قابلية التجنيد السياسي.
- الذاكرة الجماعية للطائفة تحمل تجارب مريرة من التحالفات الخارجية: كان أبرزها خلال الحرب الأهلية اللبنانية، حيث وجد الدروز أنفسهم في صراعات دموية مع محيطهم، ما جعلهم أكثر حذرًا من الانجرار إلى مشاريع خارجية.
- الزعامة الدرزية في سوريا ولبنان تعلّمت من التاريخ: فسواء في موقف كمال جنبلاط الرافض للتدخّل الإسرائيلي، أو في امتناع مشايخ الجبل في السويداء عن التعاون مع القوات الإسرائيلية خلال الثورة السورية، فإن التيار السائد داخل الطائفة اتسم بـ”الحياد السيادي”، وليس الانخراط في محاور تفكيكية.
وهنا تكمن مفارقة تتعلق بـ “الخصوصية الدرزية” بين الانعزال والاستهداف، فقد لقد وجدت إسرائيل في “خصوصية” الطائفة الدرزية مبررًا لمحاولات فصلها عن الدولة السورية، لكنها فشلت في قراءة هذه الخصوصية كتعبيرٍ عن تكيف مع الدولة الوطنية، لا استعداد للانفصال عنها.
بمعنى آخر، فإن النزعة الانعزالية – الظاهرة في تنظيم الخدمة الذاتية، والمؤسسات الدينية، والهيكل العشائري – كانت وسيلة دفاعية وليست مشروعًا تفكيكيًا بحد ذاته، وهنا تتكشف ثغرة أساسية في منطق التوظيف الإسرائيلي: اختزال الخصوصية في استعداد للانفصال، وهو استنتاج خاطئ قاد إلى فشل سياسي مزمن.
مما سبق، نخلص إلى أن محاولات توظيف الدروز في المشاريع التقسيمية تعكس بنيةً استعمارية ترى في الطوائف أدوات لا شركاء. كما أن الطائفة الدرزية، ورغم كل الضغوط، تمكنت من المحافظة على سردية وطنية في سوريا ولبنان وإسرائيل، ترفض الانخراط في مخططات خارجية، أما من الناحية الأخلاقية، فإن هذا النوع من التوظيف يعد انتهاكاً صارخاً لحق الجماعات في تقرير مصيرها داخل أوطانها، وليس من خلال هندسة خارجية مشبوهة.
الخلاصات السابقة بدورها تقودنا لسؤال المستقبل: كيف يمكن تجاوز هذا التوظيف الطائفي في إطار ديمقراطية؟ في هذا الإطار فإن الإخفاقات المتكررة في توظيف الطوائف – ومنها الطائفة الدرزية – في مشاريع تقسيمية تديرها قوى خارجية، تفتح الباب أمام نقاش جدي حول نموذج بديل يتجاوز منطق التفكيك والهندسة الطائفية، وهو ما تطرحه فلسفة “الأمة الديمقراطية” كواحدة من الخطابات النقدية التي برزت أخيراً بين الحركات التحررية في الشرق الأوسط. والأمة الديمقراطية كبديلٍ يستند على اللامركزية التعددية التي تعترف بالهويات المحلية دون أن تجعلها أساسًا للصراع أو الانفصال، فإنه لو طُبّق هذا النموذج في السياق السوري، يمكن أن يمنح الطائفة الدرزية – وسواها من الشعوب – فضاءً سياسيًا يتيح لها الحفاظ على خصوصيتها الثقافية والدينية ضمن إطارٍ ديمقراطيٍ مُشترك، لا تستغلها فيه قوى خارجية ولا تُقصيها فيه سلطة مركزية.
وعليه، فإن خيار اللامركزية الذي يقوم على الاندماج الوطني الوظيفي “غير القسري” لمكونات المجتمع، يدفع الطوائف بعيداً عن إمكانية التوظيف كممراتٍ للتدخّل الخارجي أو كقواعد لمشاريع انفصالية، بل تُعاد صياغتها كمكوّنات فاعلة في عقدٍ اجتماعي أفقي تعددي، يقطع مع منطق التقسيم. وبهذا، يمكن القول إن رفض الدروز للتموضع كأداةٍ في يد المشاريع الخارجية ينسجم فعليًا مع مبادئ “الأمة الديمقراطية” والنموذج اللامركزي، حتى وإن لم يُعبَّر عنه نظريًا بمصطلحاتها.