فوزي سليمان
إن المقولة التي أطلقها القائد عبد الله أوجلان خلال مرافعات إيمرالي “لو إن الوعي الذي نمتلكه الآن امتلكناه في السبعينات من القرن الماضي لما كنا لجأنا إلى الكفاح المسلح” هو تعبير مكثف عن أهم قانون للمادية الديالكتيكية، ألا وهو كل شيء يتغير كل شيء يتبدل، وما دمنا قد بدأنا بوعي الإنسان والذي هو جوهر تطور الحضارة الإنسانية، فإننا نتحدث هنا عن تطور وحسب الاختصاصيين عن مرحلة قدر عمرها بـ 500 مليون عام، وتأتي نظرية تشارلز داروين عن التطور في أصل الأنواع واحدة من النظريات (المدوية) التي فتحت الأبواب مشرعة أمام مؤيد ومعارض، ورغم ذلك لا يمكن نفي إن وعي الإنسان كصفةٍ بيولوجية كامنة فيه، تتأثر وتؤثر بالمحيط وفي المحيط، وقد أكد كارل ماركس في عام 1859 نظرية تطور الوعي الإنساني بوصفه “البيئة الاجتماعية هي التي تحدد وعي الإنسان”.
وبناءً على ما تقدم؛ فإن الأيديولوجيا والفلسفة وبشقيها المادي والميتافيزيقي وكل ما يتعلق بوجود وتطور الإنسان من لغة وصناعة وفن وأدب يسري عليها القانون نفسه، باستثناء الأيديولوجيات المنغلقة في أطر ضيقة، والتي حولت مصيرها ومستقبلها إلى يوتوبيات لا تتحقق على الأرض وإنما في عوالم أخرى…! هنا بإمكاننا الجزم يقيناً بأن القوى والحكومات والأحزاب والشعوب المعتقدون بالمواقف القومية والدينية الضيقة وذات البعد الواحد الأبدي، والذي لا يتغير تعمي البصر والبصيرة ومصيرها كمصير بركة مياه ساكنة فإما أن تجف تماماً وتنتهي وإما أن تتعفن وتنشر الأوبئة والأمراض القاتلة. وأكثر الشعوب التي بحاجة ماسة إلى التغيير والتحول نحو الديمقراطية هي شعوب الشرق الأوسط، التي تقوقعت منذ قرون في مفاهيم وأيديولوجيات عفا عنها الزمن، لا بل أضحت عائقاً أمام تطورها، وهذا ما تعايشه في حاضرنا من خلال الأزمات التي تفتك بمقدرتها البشرية والمادية لتظل أسيرة حلقة مفرغة تكرر ذاتها في كل شيء، لتجعل الحياة برمتها بلا معنى.
بناءً على ما تقدّم، جاءت مبادرة السلام التي أطلقها القائد عبد الله أوجلان، بمثابة قيام نوح ببناء الفلك لإنقاذ الحياة الكونية برمتها من الطوفان المدمر، لتمهد الطريق أمام ولادة عصر وحياة جديدتين، من خلال تغييرات عظيمة بالمفاهيم الأيديولوجية والفلسفية السائدة منذ قرون، الأمر الذي دفع بالبعض إلى الاعتقاد بأنه مجرد عملية خضوع لأمر واقع شبيه بالاستسلام، وخصوصاً بعد أن عقد حزب العمال الكردستاني مؤتمره الثاني عشر والإعلان عن نهاية حقبة دامت أربعة عقود من الحرب، وبداية حقبة جديدة من النضال السياسي والديمقراطي، هنا وفي هذه النقطة بالذات لابد من فهم واستيعاب حقيقة فلسفة وديالكتيك حزب العمال الكردستاني كي لا نقع أسرى مفاهيم خاطئة، والتي قد يروج لها البعض، وفعلياً قد اتجه كثيرون في هذا المنحى الخاطئ.
إن تبنّي فلسفة الأمة الديمقراطية والتعايش المشترك بين الشعوب وانتقاد ما سبقها من حقبة كانت تحت تأثير حركات يسارية وتحررية والخروج منها من خلال تبني فلسفة لا تؤمن بالجزر المنعزلة على نفسها، هذه الحقيقة إنما تتطلب شجاعة عظيمة لا يعرف قيمتها إلا من خاضوا وفي أصعب الظروف وأحلكها نضالاً ضد الإبادة والإنكار والفتن، وأوصلوا شعوب المنطقة وخصوصاً الشعب الكردستاني إلى القوة التي تمكنه من الاستمرار وتكليل نضالاته بالنصر، فالقوة الحقيقية الكامنة في حزب العمال الكردستاني هي قدرته على التغيير والتحول عن وعي ديالكتيكي ليكون قادراً على تمثيل القيم التي انطلق من أجلها، وبناءً على مقررات المؤتمر الثاني عشر؛ فإن حزب العمال الكردستاني استطاع أن يمهد الطريق نحو عملية سلام حقيقية، وهنا لابد من خطوات عملية متوازية تُقدم عليها الدولة التركية والبدء بإصلاحات قانونية ودستورية وديمقراطية شاملة وهذا الأمر يعدُّ خطوةً أولى نحو الخروج من الأزمة الكبيرة التي يعاني منها الجميع، وإبقاء قنوات وأبواب الحوار مفتوحة لإفساح المجال للفعاليات والآراء والمقترحات التي تصب في خانة دعم وتحقيق عملية السلام.
هنا لابد لنا من القول إن أكثر الشعوب التي تمتلك قوة وإرادة التحول الديمقراطي هو الشعب الكردي، لأنه وببساطة شديدة ومجردة هو أكثر الشعوب معاناة من سياسات التهميش والإنكار والإبادة، وبالشكل نفسه؛ يُدرك ويعرف قيمة كيف أن يعيش الإنسان حراً.