صلاح الدين مسلم
لطالما شكّل شعار “وحدة الصف الكردي” محوراً أساسياً في الخطاب القومي الكردي، وقد تباينت حوله الرؤى بين من اعتبره مجرد كلام إنشائي يدغدغ المشاعر القومية، ومن رآه ضرورة وجودية لا غنى عنها لتوحيد الرؤى والمطالب. ومع دراسة الواقع الموضوعي، يبدو جليّاً أنّ وحدة الصف ليست ترفاً خطابيّاً، بل شرطاً بنيويّاً في هذه الفوضى السوريّة.
رغم رسوخ شعار الوحدة في وجدان الكُرد، إلّا أنّ الممارسة السياسية الكردية عبر عقود كشفت عن صعوبات جدية في تحويل هذه القناعة إلى واقعٍ عملي. فالاختلافات الحزبية، وصراعات النفوذ، والارتباطات الإقليمية والدولية المختلفة، كثيراً ما كانت سببًا في تبديد الجهود، وأحياناً في التصادم المباشر بين القوى الكردية نفسها.
مع ذلك، لا يجوز اختزال الحديث عن وحدة الصف في مجرد مطالبة بوحدة الرؤية السياسية أو تطابق الأيديولوجيات، فالتاريخ السياسي العالمي يعلّمنا أن تعدّد الأحزاب والتيارات الفكرية هو ظاهرة طبيعية، بل وصحية في المجتمعات الحية. ولذلك، حين نتحدث عن توحيد الرؤى، فإننا لا نعني القضاء على التنوع السياسي، بل نعني إيجاد أرضية مشتركة، وخطّاً عريضاً تتفق عليه مختلف التيارات رغم تباين منطلقاتها الفكرية؛ وحدة الهدف القومي، وحماية المكتسبات، ومواجهة التهديدات الوجودية، هذه هي محاور الالتقاء الضرورية التي لا تتعارض مع استمرار التعددية الحزبية والفكرية والأيديولوجيّة.
في هذا السياق، تجدر الإشارة إلى أن مصطلح “الأعداء” ليس مجرد كلمة استهلاكية أو شماعة نعلق عليها عجزنا السياسي، وليس استدعاءً للخطاب الشعبوي التقليدي الذي اعتادت عليه بعض الأحزاب القوموية الضيقة أو الحركات الإسلاموية المتعصبة. بل إنّ تحديد الأطراف التي تناصب الكُرد العداء فعليًا، والتي تعمل على طمس هويتهم أو تصفية مكتسباتهم، يمثل جزءاً أساسيّاً من الواقعية السياسية ومن فهم قوانين الصراع العالمي.
في عالم تحكمه المصالح القومية والاصطفافات الإقليمية والدولية، يصبح التحديد الواضح للأطراف الصديقة والمعادية ضرورة استراتيجية، لكنه لا يعني الانغلاق أو العجز عن قراءة التوازنات، بل يتطلب خطاباً سياسيّاً ناضجاً يدرك موازين القوى، ويتعامل بمرونة دون التخلي عن الثوابت القومية.
تُظهر تجارب العديد من الشعوب كيف أنّ الوحدة على الخط العريض كانت مفتاح تحقيق الاستقلال أو التقدم السياسي، فالتجربة الألمانية – مثلًا – سواء في مرحلة توحيد الولايات الألمانية في القرن التاسع عشر أو إعادة توحيد الألمانيتين عام 1990 لم تتطلب تطابقاً أيديولوجيّاً بين كافة القوى، بل التزاماً عامّاً بهدف قومي مشترك. كذلك، نجح الفيتناميون، رغم الانقسام الأيديولوجي الحاد، في توحيد جهودهم ضدّ الاحتلال الأجنبي، واضعين هدف التحرير فوق الخلافات الفكرية. وفي جنوب إفريقيا، تمكّنت قوى سياسية متباينة التوجهات من الالتقاء حول هدف إنهاء نظام الفصل العنصري، رغم اختلاف برامجها الاقتصادية والاجتماعية.
هذه النماذج التاريخية تؤكّد على أنّ توحيد الرؤية الكلية لا يعني إنهاء التعدد، بل توجيه التنوع لخدمة مشروع قومي جامع.