الشدادي/ حسام الدخيل ـ في عُمقِ الجزيرة السوريّة، بين ذراعي دجلة والفرات، تتفتح لهجة عربية نديّة، مشبعة برائحةِ التاريخ، وعبق القوافل العابرة، ووشوشات السهول الممتدة. هنا، في هذه الرقعة الخضراء من شمال شرق سوريا، لا تنبض الأرض بالزراعة وحدها، بل تنبض كذلك بكلمات حفظت ملامح العربية الأولى، وتوشحت بوشاح من التأثيرات العابرة على مدى القرون.
لهجة أهل الجزيرة، أو كما يُحب أهلها أن يسموها “اللهجة الجزراوية”، ليست مجرد طريقة نطق أو مجموعة ألفاظ؛ إنها مرآة لتاريخ طويل، يشهد على هجرات القبائل وتلاحم الحضارات على ضفاف الأنهار العظيمة.
مهد اللهجة.. امتداد على بساط الماء والتراب
تبدأ رحلة اللهجة الجزراوية من الموصل، حيث تعانق الضفة العراقية للفرات، مرورًا بمروج الحسكة الرحبة، وصولًا إلى دير الزور ذات الوجه الصحراوي الحاني، وتمتد أصواتها عبر آزخ، والمحلمية، وماردين، والقرقيسيا، حيث حافظت الجغرافيا الوعرة والمجتمعات القبلية على نقاء هذا الصوت العربي الأصيل.
جذور مغروسة في تربة العصور
في غابرِ الأزمان، حين استقرت قبائل الأزد، وقضاعة، وتنوخ، ثم لاحقًا ربيعة وبكر، على ضفاف الفرات الخصيبة، بدأت تتشكل ملامح اللهجة الجزراوية. كانت تلك القبائل جسورًا لغوية بين الشام والعراق، وساهمت حركتها التجارية والثقافية في صقل لهجة جمعت بين العذوبة والقوة.
وقد احتضنت مدن مثل الرقة ودير الزور حركة علمية وأدبية نشطة خلال العصر الإسلامي، مما ساعد على صون كثير من الخصائص اللغوية رغم رياح الهجرات القادمة من عمق الجزيرة العربية والعراق.
ملامح اللهجة.. بين سحر الفصحى وألق التميّز
تحمل اللهجة الجزراوية في طياتها بريق الفصحى وعطر الماضي، ومن أبرز خصائصها:
الكشكشة: حين يختتم الضمير المؤنث بحرف “ش”، فتصير “رأيتكِ” إلى “رأيتكش”، في نعومة لفظية لافتة.
العنعنة: فتتحول الهمزة إلى عين، كما في “أنك” التي تصبح “عنك”، دلالة على قرب الصوت من الروح.
إبدال القاف بالگاف (G): حيث تصير “قلم” إلى “گلم”، بما يحاكي نبض اللهجة العراقية القريبة.
أما نحويًا، فيظل أهل الجزيرة أوفياء للفصحى:
يستخدمون النون والواو في أواخر أفعالهم الخمسة (ينامون، يأكلون).
ويحافظون على نطق التاء المربوطة، فلا تذوب في الكلام كما يحدث في لهجات أخرى.
في مفرداتهم، نسمع أصواتًا قادمة من أعماق التاريخ:
“الوجيج” لصوت النار المتأججة.
و”الهكط” للبن الممزوج بالحموضة.
تحولات على ضفاف النهر
رغم تجذر اللهجة الجزراوية في تربة الأصالة، إلا أن موجات الهجرة البدوية خلال القرن العشرين تركت أثرها. فقد وفدت عشائر بدوية من الجزيرة العربية والعراق، سكنت سهول دير الزور والموصل، ومعهم جاءت لهجات بدوية جديدة، تميل إلى استبدال الكاف المؤنثة بجيم ثلاثية النقاط، فتحولت “بيتكِ” إلى “بيتجي” و”خالتكِ” إلى “خالتجي”.
ومع مرور الزمن، بدأت بعض معالم اللهجة الجزراوية التقليدية تتراجع قليلاً أمام زحف اللهجات الوافدة، خاصةً في دير الزور، دون أن تفقد طابعها العميق.
شهادة التاريخ.. صوت الجزيرة الأصيل
لم يغفل الرحالة والجغرافيون جمال لهجة الجزيرة، فقد قال المقدسي واصفًا أهلها: “وأهل الجزيرة لغتهم حسنة، أصح من لغة أهل الشام، لأنهم عرب، وأحسنها الموصلية”.
شهادة تحفظ للجزيرة مقامها اللغوي، وتؤكد أن هذه الأرض كانت ولا تزال حاضنة لصوت عربي نقي، متين، وعذب.