حافظت آلة الربابة على نفسها لتكون سفيرة للتراث الفراتي، ترافق عشاقها في الأفراح والأحزان، وتقاوم الاندثار في حوض الفرات، منتقلةً عبر الأجيال.
احتلت الربابة الفراتية، مكانة هامة في حياة الشاعر والمغني والفارس، وحتى شيوخ القبائل والعشائر، وذلك بسبب الأثر الكبير الذي تحدثه الكلمة الملحنة، والأمر الذي جعل الشعراء الذين لا يجيدون العزف على الربابة يسعون لامتلاك هذه المهارة لإمتاع الذين ألفوا سماع الشعر مصحوباً باللحن.
تاريخ الربابة
و”الربابة” آلة موسيقية وترية تُعد واحدة من أقدم الآلات، التي انتشرت لسهولة صنعها وتوفر موادها في البيئة المحيطة في حوض الفرات، ما جعلها ترافق أبناء المنطقة، وتبقى سفيرة للتراث الفراتي، حيث تعبّر عن الأفراح والأتراح، وتكون ألحانها مرتبطة بقصائد الشعر التي تعبّر عن الحالة الموجودة.
يقول باحثون: إن “الربابة” يعود تاريخها إلى خمسة آلاف سنة، صنعت بإتقان واحتلت مكانة هامة في ثقافة الشعوب التي تعرفت عليها.
هذا، وصنعت أشكالاً عديدة من الربابة، وهي: المربع، والمدور، والقارب، والكمثرى، والنصف كرة، والطنبورة، والصندوق المكشوف.
وأكثرها استعمالاً في حوض الفرات هي المربع، أو ما يُعرف بالربابة العربية، التي تتألف من الهيكل، والطارة، والسبيب، والكراب، والقوس، والغزال، والمخدة، وجميعها مصنوعة من الأخشاب وجلد الغزال أو الماعز ولكل قطعة دورها في الخروج بلحن الربابة، إضافة إلى شعر ذيل الحصان العربي الأصيل، الذي يوفر أداءً جيداً.
وقد تعلم “عبد الخلف” أحد عازفي الربابة في مدينة الجرنية بريف مقاطعة الطبقة بإقليم شمال وشرق سوريا، العزف على الربابة منذ 40 عاماً من خلال شغفه بهذا التراث الذي دفعه لصناعة آلته الأولى بيده، والتدرب عليها حتى أتقن العزف ببراعة.
حيث أشار، إلى أن الربابة كانت توجد في بيت الشخص المضياف، وهي من الأدوات المهمة في المضافات القديمة، حيث يستمع لها الموجودون في سهراتهم ولقاءاتهم. وكان هناك قسم من العازفين، يجوبون القرى والبوادي، ويشاركون الناس أفراحهم وسهراتهم.
ويعدُّ سكان الفرات، ومنهم “عبد الخلف”، أن عازفي الربابة الذين يرافق عزفهم أغاني تحمل إرث المنطقة، تحولوا إلى سفراء لنقل التراث، حتى وصلوا به إلى البلدان الأخرى، وأسهموا في الغنى الثقافي في حوض الفرات، حيث لكل جزء طابع خاص. وبترحالهم، شكلوا مزيجاً للون الفراتي.
وشاركت الربابة الفراتيين أفراحهم وأحزانهم، ويعزفونها للحب والحرب، حيث يخاطب الحبيب حبيبه على أنغام الربابة، ويُحث الشباب لمحاربة الأعداء بالأغاني ومعزوفات الربابة.
وتأثر عازفو الربابة على امتداد نهر الفرات ببعضهم، حيث يُعد محمود حامد، وملا ضيف الجبوري، وسلطان أحمد، وهم عازفون عراقيون، أبرز من تأثر بهم عبد الخلف وكثير من عازفي مقاطعة الطبقة.
ويُعدّ الخلف، أن العازف “غازي بن سليمان” هو الأشهر والأجدر في تاريخ عازفي الربابة في مقاطعة الطبقة. فيما يرى الخلف، أن الوتر الوحيد للربابة، على عكس الآلات الوترية الأخرى، التي تحتوي عدة أوتار، يشكل تحدياً لعازف الربابة، يتطلب منه إبداعاً أكثر لإخراج النغمة واستبدال كثرة الأوتار بحركات أنامله المحترفة.
ويتحسر الخلف على ما مرت به الربابة في سنوات مضت، حيث أوضح: “في فترة سابقة أصبح هناك نقد لعازف الربابة نتيجة المفاهيم الخاطئة الدخيلة على مجتمعنا في سنوات الحرب، على عكس الماضي الذي كان فيه عزف الربابة يتميز بدور مرموق في المجتمع لما ينشره من أجواء المحبة والألفة بين الناس”.
ويُعزي الخلف السبب في ذلك، إلى الأحداث والمفاهيم الدخيلة التي جعلت الشباب لا ينتمون إلى تراثهم وثقافتهم، والتي تعد الربابة جزءاً منها، واتجهوا نحو الآلات الصاخبة: “لكن يبقى للربابة مستمعوها الأوفياء من كبار السن الذين عاشوا طفولتهم وحياتهم على أنغامها.”
ومع ذلك، يرى عبد الخلف بارقة أمل كبيرة في الآونة الأخيرة، حيث أشار في ختام حديثه، إلى أن المجتمع بدأ في الفترة الأخيرة بالصحوة والعودة إلى تراثه وثقافته، والاستماع إلى ما هو تراثي، سواء الربابة أو الزمارة أو الدف، أو حتى على صعيد اللباس الفلكلوري.
وكالة هاوار للأنباء