دجوار أحمد آغا
ذكرنا في القسم الأول، أن العثمانيين أسلاف الأتراك استوطنوا المنطقة، بمساعدة الكرد منذ ألف عام، واستغلوا الدين الإسلامي في بناء سلطنة واسعة مترامية الأطراف، وصلت إلى قلب أوروبا المسيحية، الأمر الذي دفع بقادة أوروبا إلى التوحّد ومواجهة العثمانيين، وبالتالي خسارتهم في معركة فيينا، ومنها بدأ الانكسار العثماني، إلى أن وصلت إلى مرحلة “الرجل المريض” كما أطلق عليها الأوروبيون.
وتابعنا كيف سلك الأتراك فيما بعد طريقة أسلافهم العثمانيين، في التعاطي مع الكرد، من خلال مؤسس تركيا الحديثة مصطفى كمال “أتاتورك”، الذي وعد الكرد، بأنهم سيكونون شركاء حقيقيين في الوطن بعد تحريره، لكنه لم يلتزم بوعده وتنكر لحقوق الكرد، وبدأت جمهوريته بارتكاب المجازر الوحشية بحق الكرد، وممارسة الإبادة العرقية من خلال نفيهم وتشتيتهم وتهجيرهم من مدنهم وقراهم، بشكل فردي وجماعي، هذه المظالم دفعت إلى ظهور حزب العمال الكردستاني الذي سوف نتحدث في هذا القسم وعمّا يعنيه للكرد.
الاجتماعات والتحضيرات الأولى
نهاية ستينات القرن الماضي، كانت فترة فوران واندفاعات شبابية وطلابية، ضد سلطات الدول القمعية في مختلف أنحاء العالم، وبروز قوى اليسار الثوري، ولم تكن تركيا بمعزل عن هذه الأحداث، هذه المرحلة الممتدة من 1968 إلى 1973 يطلق عليها القائد عبد الله أوجلان، اسم مرحلة “البحث والتعمّق”، حيث تعرف فيها على الأفكار اليسارية الثورية، وتأثر بقادته في تركيا أمثال (دنيز كزميش، وماهر جايان، وإبراهيم قايباق قايا، وحسين إينان، ويوسف أصلان)، بمشاركة طلابية في الاحتجاجات الطلابية، بعد استشهاد ماهر جايان ورفاقه، فاعتقل في السابع من نيسان 1972 ووضع في سجن “ماماق” بأنقرة، لمدة سبعة أشهر.
بعد خروجه من السجن عقد الاجتماع الأول بحضور خمسة رفاق عند سد “جوبوك” في نوروز 1973، حيث طُرحت للمرة الأولى فكرة بناء تنظيم مختلف عن بقية التنظيمات الكلاسيكية الموجودة، فكبرت المجموعة في العام 1974 بانضمام (مظلوم دوغان، وخيري دورموش، ومظفر آيات، ومصطفى قره سو، ورضا آلتون، وكسيرة يلدرم)، إلى جانب جميل بايك، وكمال بير، وحقي قرار، ودوران كالكان، وعلي حيدر قايتان.
تأسيس حزب العمال الكردستاني
بعد أن نضجت المجموعة وتشبّعت بفكر القائد عبد الله أوجلان، تم عقد اجتماع في حي “ديكمان” بالعاصمة أنقرة، حضره 15 شخصاً، حيث تم فيه تعليق الدراسة الجامعية، والتوجه نحو كردستان، والبدء بالنشاط الفعّال بين الجماهير، وفي 18 أيار 1977، اتخذ القائد عبد الله أوجلان، قرار التحول إلى تنظيم وإعلان تأسيس الحزب.
ففي ديلوك “عنتاب”، تم اغتيال أحد أبرز أعضاء المجموعة “حقي قرار”، وتكررت الاعتداءات على أعضاء المجموعة، ومن ثم يتم اغتيال خليل جاغون، في حلوان بتاريخ 18 أيار 1978، الأمر الذي دفع القائد عبد الله أوجلان، إلى التعجيل في كتابة “مانيفستو” الحزب تحت اسم (طريق ثورة كردستان)، حيث وزع بين كوادر المجموعة.
وفي 27 تشرين الثاني 1978، اجتمع القائد عبد الله أوجلان، برفقة 21 رفيقاً ورفيقة، في منزل رفيقهم علاء الدين زورخولو، بقرية “فيس” بمنطقة “لجي” التابعة لأيالة “آمد”، وتم إعلان تأسيس حزب العمال الكردستاني، الذي أصبح الانبعاث الجديد.
العمل من أجل حل القضية الكردية
أصدر الحزب مجلة “سرخبون”، التي انتشرت بين الجماهير المتعطّشة للحرية والمقاومة، وفي آخر انتفاضة صنع الأتراك قبراً فوق جبل آكري، كتبوا عليه “هنا كردستان الخيالية”، في إشارة إلى القضاء على آمال وطموحات الشعب الكردي، بتحرير وطنه والحصول على حقوقه.
السلطات التركية لم تستطع إيقاف المد الثوري الكبير، وانتشار الحزب وأفكاره بين الجماهير، على الرغم من محاولات التصفية، التي قام بها عملاؤه، بالإضافة إلى قيام القوى الأمنية القمعية باستهداف كوادر الحزب وأعضائه، لثنيهم عن الاستمرار في الكفاح والنضال. لذا؛ لجأت لأسلوب الجبناء، وقامت بارتكاب مجزرة في مدينة “كوركوم” مرعش، استشهد فيها خلال أسبوع ما لا يقل عن 2000 شخص، معظمهم من أعضاء وأنصار الحزب، ثم أعلنت بعدها السلطات التركية حالة الطوارئ في باكور كردستان.
انقلاب 12 أيلول 1980
أمام هذا التقدّم الكبير للحزب، ونجاحه جماهيرياً بشكل ملفت للنظر، وعدم قدرة السلطات ضبط الأمور والسيطرة على الوضع، تم اتخاذ القرار وعلى أعلى المستويات من جانب قوى الهيمنة العالمية، بالقيام بضربة عسكرية، حيث قام رئيس هيئة الأركان وقتها، كنعان إيفرين، بانقلاب عسكري في 12 أيلول 1980، بمباركة ودعم من الإمبريالية العالمية، وقبل الانقلاب بفترة قصيرة، شعر القائد عبد الله أوجلان، بوجود شيء ما وقال: “إني أسمع صوت أقدام “الجونتا” أي العسكر”.
وهذا الانقلاب اعتبر الأكثر دموية في تاريخ تركيا المعاصر، وانكشف الوجه العسكري للدولة بكل وضوح، حيث لم يبقَ أيّ شكل من أشكال القمع، إلا وجربته الفاشية التركية، من الإنكار، والإبادة، وارتكاب المجازر الجماعية، بلغت حداً لا يوصف، عبر ضراوتها وبشاعتها المنقطعة النظير.
مظلوم دوغان “المقاومة حياة”
الآلاف من كوادر وأعضاء وأنصار الحزب، وحتى البعض ممن ليس لهم أية علاقة بالحزب، لا من قريب ولا من بعيد، تم الزجّ بهم في السجون والمعتقلات، التي لم تستوعب العدد الكبير، فقامت الفاشية التركية بتحويل المدارس إلى مراكز اعتقال وتعذيب، السجن الأكثر شهرة في التعذيب كان سجن آمد “ديار بكر” العسكري، حيث يتواجد فيه قادة حزب العمال الكردستاني (مظلوم دوغان، وكمال بير، ومحمد خيري دورموش، وغيرهم). كانت الفاشية التركية، وعبر عملائها في السجون، تطرح مسألة وقف التعذيب في حال الاستسلام، والالتزام بعدم القيام بأي نشاط معادٍ في المستقبل، وكان التصفويون ينشطون في داخل السجن بشكل كبير، مما شكّل خطراً حقيقياً على وجود الحزب، حينها بدأ أحد كبار قادة الحزب مظلوم دوغان، بالمقاومة من خلال إشعال النار في جسده ليلة النوروز عام 1982 وصرخ قائلاً: Berxwedan Jiyane “المقاومة حياة”.
مقاومة السجون 14 تموز 1982
صرخة الشهيد الكبير مظلوم دوغان، “المقاومة حياة”، كانت كفيلة بإعادة روح المقاومة للرفاق المعتقلين، واستناداً لذلك، وخلال المحاكمة، التي أجرتها السلطات الفاشية التركية، بحق قادة وكوادر حزب العمال الكردستاني، أطلق قائد كبير آخر (خيري دورموش) في 14 تموز 1982، حملة الصيام الكبير أو صيام الموت، وانضم إليه فيما بعد قادة آخرون أمثال كمال بير، وعاكف يلماز، وعلي جيجك، ومصطفى قره سو، والمئات من مناضلي الحزب، هذه المقاومة أذهلت العدو وشلّت حركته، وحاول المستحيل وقدم الإغراءات إلى الرفاق، من أجل وقف الإضراب، لكن الرفاق أصروا على موقفهم ومقاومتهم الخالدة، التي استطاعت في نهاية المطاف، إجبار سلطات السجن على وقف التعذيب الوحشي، ومعاملة المعتقلين والسجناء معاملة لائقة.
الظلم والتعذيب الوحشي بحق الكرد
ما تعرض له الكرد من تعذيب وحشي يفوق التصور البشري، فمنذ القديم الأتراك، يمارسون أقسى أنواع التعذيب بحق المناضلين الكرد، وقد ذكر المناضل الهندي الكبير “جواهر لال نهرو” في كتابه (لمحات من تاريخ العالم)، عندما زارته ابنته أنديرا غاندي، وهو في السجن، حيث قال: لا تبكي يا ابنتي فهناك مناضلون أشداء مخلصون لقضية شعبهم ووطنهم، ويتعرّضون لأبشع أنواع التعذيب، بالكهرباء وقلع الأظافر، والكيّ بالنار، ورغم ذلك شعبهم لا يعرفهم بشكل جيد، فسألته انديرا ومن هؤلاء يا أبي؟ قال لها: انهم الكرد يا ابنتي.
قفزة 15 آب 1984 الكفاح المسلح
لم يأتِ لجوء الحزب إلى الكفاح المسلّح من فراغ، بل كان نتيجة طبيعية لما كانت تقوم به السلطات الفاشية التركية، بحق الكرد في باكور كردستان، بعد مقاومة ديرسم 1938، كانت المرة الأولى التي ترى فيها الفاشية التركية السلاح في يد أبناء الشعب الكردي، حيث قرر القائد عبد الله أوجلان، البدء بالكفاح المسلّح من خلال ثلاث مجموعات من كوادر الحزب، بتاريخ 15 آب 1984، الأولى مجموعة 18 أيار، بقيادة ترزي جمال وأبو بكر، حيث ذهبت إلى شاخ، وبحجة أنها لم تصل في الوقت المناسب إلى المكان المطلوب، لم تنضم إلى الحملة، الثانية مجموعة 21 آذار بقيادة عبد الله أكنجي، ومحمد سفكات، كانت وجهتهم شمزينان، التي دخلوها، لكن تم كشفهم وخاضوا معركة ضد العدو لكنهم لم يتمكّنوا من السيطرة عليها، أما الثالثة مجموعة 14 تموز فكانت تحت قيادة معصوم قورقماز “عكيد”، التي دخلت مدينة “أروه” في منطقة سيرت، واستولت عليها، وتم الإعلان عن تأسيس قوات تحرير كردستان HRK بمكبرات الصوت في الجامع، هكذا بدأ الكفاح المسلّح الذي أطلق عليه القائد اسم “الرصاصة الأولى”، ومن خلالها، تم هدم جدار الخوف لدى الشعب الكردي، الذي استيقظ من غفلته وبدأ بالانخراط في الثورة.
اشتداد الحرب الوحشية ضد الكرد
لم تصدّق الفاشية التركية، إمكانية قيام الكرد مرة أخرى بحمل السلاح والدفاع عن وجودهم، خاصة بعد أن صنعوا قبراً من الإسمنت فوق آكري، وكتبوا عليه (هنا كردستان الخيالية)، لذا؛ رأوا في قيام الكرد بحمل السلاح والبدء بالكفاح المسلّح ضدهم، إهانة كبيرة لهم، كيف لا وهم ثاني أقوى وأكبر جيش في الناتو، بعد الولايات المتحدة الأمريكية، وهم يمتلكون مئات الطائرات الحربية، وآلاف الدبابات والمدافع والمدرعات، ومختلف أنواع الأسلحة الفتّاكة، بينما لا يمتلك المقاتلون الكرد، سوى السلاح الفردي وبضعة قنابل يدوية.