عبد الوهاب بيراني (كاتب وناقد)
“على مقربةٍ منَ الفرحِ”
على مقربةٍ من الفرح
الأرض للوراء دارتْ
الشمس أدركت القمر
الليل تعلَّق بمئذنةٍ
تمتم تعويذة الَّلهبْ
تراكض الحَطَبُ….
والسَّيف والرُّمح والكفنُ
حتى الفصول غيَّرت لباسها
………….
على مقربةٍ من الفرح
فارغات السنابل طمأنتهم
أطعمتنا رائحة الرغيفِ
قشورها
أغمضت قلوبنا
الياسمين
لم يلبس يوماً ظلَّ الطحالبِ
شامخٌ هو في عرشهِ
متكئ على عطرهِ
دموعُهٌ الغافيةُ أيقظت ملحنا
كيف للخبز أن يغادر عيشنا
وللتاريخ أن يفارق حبرهُ
وللذهب أن يلعنَ تِبرَهُ
………..
على مقربةِ من الفرح
ظهورنا أيقنت حرابهم
لن يستميل الرمل خُضرتنا
أعناقُنا تعلِّق الفجر قلادة
دماؤنا أصابعُ من نور
الحَمامُ صَدَحَنا وطناً
فطمَرنا الجراح على شفق
على مقربةٍ من الفرح”
نص “على مقربة من الفرح” ليس مجرد نص شعري، بل مرآة تعكس أزمات الوجود الإنساني في مواجهة الغربة والصراع، هكذا باختصار يمكن للمتلقي أن يؤسس على المعنى الذي أرادت له الشاعرة فيروز مخول أن يشق طريقه نحو فضاءات الفرح بكل مسؤولية وقلق وجودي وبكثير من الحذر، فالعنوان نفسه “على مقربة من الفرح” يوحي بوجود أمل قريب، لكنه يظل بعيد المنال، كأنه استعارة لمعاناة المغترب الذي يحمل ذكريات الوطن كـ “رائحة الرغيف” بينما يعيش واقعاً مغايراً.
فالنص يتميز بتشابك الرؤية الجمالية مع اللغة الشعرية المكثفة، والصور المجازية العميقة، والمحتوى الوجودي الذي يعكس صراعات الذات في مواجهة الغربة والواقع من خلال اعتمادها على التناقضات الفلسفية والنفسية التي لامست الوجود الإنساني، مثل التقارب من الفرح دون تحقيقه، والصراع بين الضياع والأمل، ويظهر هذا الصراع في صور مثل “الشمس أدركت القمر” و”الليل تعلق بمئذنة”، حيث تتحول العناصر الطبيعية إلى كيانات فاعلة تعكس اضطراباً داخلياً أو خارجياً.
كما أن استخدام الشاعرة لمفردات مثل “التاريخ” و”الحبر” و”الذهب” يشير إلى صراع الهوية بين الماضي والحاضر، وبين القيمة المادية والروحية ليس إلى الأشياء المادية، وإنما إلى الداخلي الكامن في العمق النفسي المعنوي الثري، عبر لغة شعرية غنية بالانزياحات التي تحول المألوف إلى استثنائي من خلال التجسيد، فقد جعلت من الياسمين كائناً فخوراً بجذوره ورمزا أصيلاً للهوية التي ترفض التلاشي أو الذوبان في صقيع الغربة، فالياسمين رمز دمشقي “لم يلبس يوماً ظل الطحالب”، وأيضا نكتشف استخدامها للعبة الزمن والمواقيت في تعبيرها الثري “الفصول غيرت لباسها”، حيث تستخدم الفصول كاستعارة للتغيرات الوجودية أو السياسية التي لا تحتمل من خلال طرحها أسئلة وجودية التي تظهر الصراع والتناقض ومجمل التهديدات الحياتية كالحرب الدائرة في وطنها وأزمات الغربة والجوع، إذ تقول:
“كيف للخبز أن يغادر عيشنا؟” وهذا السؤال المفتوح سيبقى بانتظار أجوبة المتلقين بكثير من الوجع.
ومن أجل أن تكون المكاشفة أكثر شفافية وأكثر شاعرية اعتمدت على رمزية متعددة البنى والطبقات، حيث شاركت بين عناصر الطبيعة والتراث والماضي والصراع الإنسان مع التاريخ والماضي والطبيعة والمجتمع من خلال رموز دينية مقدسة مثل “مئذنة” و”تعويذة اللهب” في إشارة واضحة للصراع بين قداسة الطبيعة والسلام وقبح الحروب والدمار، فتشير إلى “السنابل الفارغة” كانعكاس لخيبة الأمل، إلى تيمة الحنين إلى الوطن من خلال هديل “الحمام” كصوتٍ يعلو فوق الألم.
ونجحت في محاولتها إظهار تحويل الألم إلى قوة وإلى فرح من خلال تكرار مفردة الفرح في النص، في رد طافح بالحب وأمل بالنصر فالدماء “أصابع من نور”، حيث الجرح شفق جديد، وحقول معشوشبة خضراء في وجه التصحر والرمال التي تحاول محو الانتماء وتشويه الحقيقة الأزلية في عناق الفرح والحرية، والأصالة، فـ”التاريخ أن يفارق حبره”.
وباختصار يمكن أن نصف النص بأنه نص دائري يعزز الإحساس بالحركة المستمرة من خلال معاينة تلك الجمل القصيرة الرشيقة (“تراكض الحطب…. السيف والرمح والكفن”) فهي تحاكي فوضى الحرب أو الاضطراب الداخلي والمتغيرات السريعة في العالم وفي وطنها سوريا.
ختاماً:
الشاعرة السورية المغتربة فيروز مخول تجمع بين لغة مكثفة تعتمد على الانزياحات المجازية، ورؤية جمالية في التناقضات أو الثنائيات: الأمل واليأس، والهوية والضياع…
النص يقدم قراءة شعرية لمعاناة إنسان يحاول البقاء على مقربةٍ من الفرح، لكنه يظل أسيرا لظروفه، ومثابراً على صناعة الفرح ومهما تصاعد الأنين وأدخنة الحروب.