إبراهيم إبراهيم (كاتب وصحفي)
بعد عقود طويلة، بل قرون، من هجمات الدولة التركية على الشعب الكردي عامةً، وحزب العمال الكردستاني (PKK) خاصةً، ورد حزب العمال الكردستاني في إطار الدفاع المشروع، وبعد التضحيات البشرية الهائلة والتكلفة الاقتصادية والسياسية الأضخم، يبدو أن الحزب اتخذ قراره الأكثر عقلانية وجرأة في تاريخه وتاريخ النزاعات الحديثة: وقف القتال المسلح، والسعي إلى حلٍّ سياسي وسلمي يعترف بالوقائع كما هي – لا كما يرغب كل طرف في تشكيلها وفق مصالحه أو نزعة إلغاء الآخر.
إنه تحول يُعدُّ من أجرأ المنعطفات في تاريخ الحركات التحررية، ولا سيما في التجربة الكردية الطويلة والمعقدة. لكنه، وللمفارقة المؤلمة، لم يرُق لبعض الأوساط الكردية، التي سارعت إلى مهاجمة هذا القرار، بل واستعرت فيها موجة حقد وهجوم قد تفوق في حدّتها خطاب الخصم التركي ذاته.
ففي الوقت الذي بدأت فيه بعض النخب التركية ومراكز القرار تراجع لهجتها العدائية، وتفتح نوافذ محتملة للمصالحة، ما يزال عدد من الكرد أسرى خطاب الكراهية القديم تجاه الحزب، هذا التناقض العجيب يطرح أسئلة جوهرية: متى يصبح “النقد” نوعاً من جلد الذات؟ ومتى يتحول إلى أداء وظيفي يخدم سرديات القمع ذاتها التي طالما قاومها الكرد؟
الخلاف مع حزب العمال ليس جديداً، وهو أمر مشروع في الحياة السياسية، بل ضروري في أي تجربة ديمقراطية، لكن ما نراه اليوم لا يمتّ بصلة إلى النقد السياسي، بل يندرج تحت ما يمكن تسميته بالحقد الإلغائي – سعي متواصل لتشويه الحزب، ونفي تاريخه، وكيل الاتهامات، دون مراعاة لتعقيدات السياق أو لتضحيات الآلاف من أبناء الشعب الكردي الذين ضحوا في صفوفه، واللافت أن كثيراً من هؤلاء المنتقدين كانوا حتى الأمس القريب يدعون الحزب إلى نبذ السلاح والانخراط في الحلول السياسية، لكنهم الآن – حين فعل ذلك فعلاً – يتهمونه بالهزيمة والتفريط. أي منطق هذا؟
الظاهرة لا تنفصل عن عوامل متعددة: التأثير الإعلامي والدعائي لعب دوراً أساسياً، فسنوات من الترويج لخطاب تشويه الحزب – سواء من الإعلام التركي أو بعض الوسائل الكردية الممولة – رسّخت في أذهان كثيرين صورة الحزب ككيانٍ عنيف مجرد من أي مشروعية سياسية، ثم تأتي الصراعات الأيديولوجية والحزبية، حيث ترى بعض التيارات الكردية في الحزب منافساً يُعطّل مشروعها، فتلجأ إلى تحميله كل أوزار القضية الكردية، حتى وإن كانت أهدافه الوطنية لا تختلف كثيراً عنها من حيث المبدأ. هناك أيضاً البعد النفسي العميق، الناتج عن تراكم القمع التاريخي، إذ تميل المجتمعات المقهورة أحياناً إلى إعادة إنتاج أدوات القمع، وتوجيهها نحو الذات أو الشقيق، وكأن العدو الحقيقي لم يعد واضحاً. ولا يمكن تجاهل عامل المصالح الضيقة، إذ تتقاطع أحياناً مواقف عدد من الناشطين والمثقفين الكرد مع سياسات دولية أو شبكات تمويل ترى في الحزب عبئاً، فينخرط هؤلاء طوعاً في استعدائه لضمان استمرار أدوارهم ومواقعهم.
إذا تم تطبيق قرار حزب العمال الكردستاني بإنهاء مرحلة الكفاح المسلح الذي اتخذ في المؤتمر الثاني عشر للحزب وبعد رسالة القائد الأسير في السجون التركية منذ أكثر من ٢٥ عاماً القائد عبد الله أوجلان والذي طالب الحزب باتخاذ منحى السلام في حل القضية الكردية بدلاً من الحرب، فإنه لا يمكن قراءته كهزيمةٍ، بل كخطوةٍ شجاعة تعبّر عن نضج سياسي واستيعاب لمتغيرات الداخل والخارج. فالحزب، بما له وما عليه، خاض تجربة كفاحية طويلة، دفع فيها ثمناً باهظاً، ومرّ بتحولات فكرية وتنظيمية كبيرة، وقد آن له أن ينقل هذه التجربة إلى ساحة السياسة المدنية والمؤسسية.
الكرة الآن في ملعب الدولة التركية أولاً، ثم في ملعب المجتمع الكردي. فإن كان السلام هو فعلاً هدف الجميع، فليُظهروا ذلك من خلال دعم خيارات الحوار والسلم، لا بإعادة تدوير الأحقاد القديمة بحجة النقد أو الغيرة الوطنية.
إن أكثر ما يُضعف القضايا العادلة ليس دائماً قوة الخصوم، بل أحياناً قسوة الأقرباء، فحين يحقد عليك من يُفترض أنهم أهل بيتك أكثر من عدوك، تدرك أن معركة الوعي لا تقل صعوبة عن معركة السياسة. وهنا يصبح التحدي الأكبر: هل نملك الشجاعة الكافية لنُساند السلام حين يطرقه أحدنا… أم نُفضّل حرباً دائمة فقط لأننا لا نتخيل أنفسنا خارج معارك التخوين؟