د. طه علي أحمد
مع تنامي القلق الإنساني بخصوص الأزمات العميقة التي طالت كافة ميادين المجتمع، تبرز الحاجة لمشروعات إصلاحية ذات تأثيرات جذرية عميقة، وفي هذا يتزايد في الآونة الأخيرة نطاق الاهتمام بالفلسفة وبالأطروحات التي يقدمها المفكر عبد الله أوجلان الذي عُنِيَ بتقديم حلول جذرية للأزمات الإنسانية، والتي خلُص إليها بعد جهد نقدي اتسع نطاقه ليشمل عمق التاريخ الإنساني منذ عصوره السحيقة، وبمراجعة هذا المشروع الفكري والجهد الفلسفي، يمكن القول بأنه قد توفر لديه قدر وافر من الخصوصية سواء على المستويين المنهاجي أو الموضوعي وهو ما يمكن استيضاحه من خلال أربع محاور قابلة للزيادة على النحو التالي:
أولاً: المنهاجيةُ ونَسَق الحقيقة:
تعدُّ المِنهاجية بمثابةِ الركيزة الأساسية لأي مشروع بحثي وفلسفية ذات امتدادات وتشعبات فكرية؛ فهي أشبه بالمنظار الذي تتشكّل من خلاله المُقاربات التي يتناول من خلالها الباحث أو المفكر وصولاً إلى صياغاته النظرية ومقولاته التأسيسية التي تنْبَثِق عنها معالجاته للقضايا والإشكاليات المجتمعية المختلفة، وقد قامت الفلسفة الأوجلانية على منهجية ذات تراتبيةٍ معينةٍ لما يُسميه “نسق الحقيقة”، وقد تشكَّلت هذه التراتبية من خلال الميثولوجيا كأول الاقترابات التي تعامل معها في رحلته الفلسفية التي قادته إلى ثورة ذهنية تجسَّدت في فكر “الأمة الديمقراطية”. وقد ترتب على ذلك تفرّد وتمايز الرؤية الأوجالانية للظواهر الإنسانية، إذ قاده التعويل على الميثولوجيا والفلسفة بدرجةٍ أكبر لاستبعاد المناهج العلمية الوضعية لطالما وُظِّفَت لخدمة مشاريع الهيمنة التي تقودها قوى الرأسمالية بشكلٍ عام.
ثانياً: تجاوز النمطية في القضية الكرديّة:
رغم الحركة الدائمة التي عرفتها القضية الكردية، والتي يندر أن نجد فيها مرحلةً في تاريخها بدون حالات من التمرّد أو الانتفاضات الثوريّة والسلسال غير المنقطع من المقاومة الذي ميَّز التاريخ الكردي بشكلٍ عام، إلا أنه ونتيجة لتجذّر الطابع العشائري القبلي في البنية السوسيولوجية للكرد رُغم ميل بعضهم نحو الاستقرار الزراعي والتمدن، ورغم دور العشائرية في إلهاب هذا التاريخ الهائج من الثورات والانتفاضات والحفاظ على خصوصية الهوية الكردية، فقد ظلَّ العقل الكردي دوماً في حاجة للانتقال من هذه العشائرية وما بها من إشكالات يتوسطها الطائفية العشائرية والسلطوية، إلى اعتناق الذهنية الديمقراطية التي تتجاوز حدود القبيلة أو العراق أو الجنس.
في هذا السياق، تفرَّد المشروع الفكري الأوجلاني، في تجاوزه لهذا الطابع العشائري، بل والغوص بعمقٍ في نقدِ بنيته السوسيولوجية وما أسفر عنه في تكريس الطبيعة السلطوية في إدارة شؤون القبيلة لصالح شيخ القبيلة، أو الفئات المتميزة اجتماعياً والميسورة مالياً، فبعد جَهدٍ مُضْنٍ من البحث في جنبات هذا المجتمع الذي رأى فيه انعكاساً لجوهر الرأسمالية بكل مسالبها، لاسيما فيما يخص الهيمنة الطبقية واستعباد المرأة، خلُص المفكر عبد الله أوجلان إلى “الحل الديمقراطي” كمصيرٍ حتميٍ لخلاص البشرية من هذه المسالب، وهو ما لا يمكن تحقُّقه بدون تجاوز الذهنية السلطوية نحو الذهنية الديمقراطية المتحررة من ضعف النفس المتسلطة وكسر قيود الغرائز المهيمنة على الحداثة في كل جنباتها.
هذه الذهنية الديمقراطية التي عَوَّل عليها المفكر عبد الله أوجلان دفعته لكسر القيود التي هيمنت على الحلول التقليدية التي قدمتها كافة مظاهر المقاومة الكردية على مرِّ التاريخ، فتضمن “الحل الديمقراطي” خيار “الكونفدرالية” كسبيلٍ لتجاوز إشكالية الاندماج الوطني التي كرَّستها الذهنية السلطوية، والتي أفضت إلى السيل الهائل من الإشكالات التي تعاني منها منطقة الشرق الأوسط على إثر الممارسات القومية المتعسفة بحقِ التنوع العرقي المُشِكِّل لشعوب المنطقة، وقد تجسَّد الخيارُ الكونفدرالي في حلِّ “الأمة الديمقراطية” كنموذجٍ يقوم على التشاركية في إدارة الشؤون العامة في كافة مناحي السياسة والاقتصاد والاجتماع أيضاً. غير أن الشرط الرئيس لتحقق هذا الخيار الكونفدرالي “الأممي” يتمثل في تجاوز الذهنية الطائفية التي تمرد عليها القائد أوجلان، فقد كان بإمكانه أن يحقق بعضاً من المكتسبات التي تضع اسمه في السلسال التاريخي بجانب شخصيات مثل محمود الحفيد، أو عبيد الله النهري، أو الأمير بدرخان من خلال السعي لتأسيس كيانٍ قوميٍ كرديٍ في نطاق جغرافي محدد يضمن له السيطرة عليه بمساعدة هياكل تنظيمية سياسية وعسكرية، إلا أنه آثر الانحياز لهذا الطرح الكونفدرالي الذي ينضوي تحت فئات عرقية عديدة تجمعها الرغبة في العيش المشترك، والانضواء في إدارةٍ تشاركية تتجاوز الفواصل العرقية والجنسية والمذهبية، وهو خيارٌ يتجاوز إشكاليات الدولة القومية الكردية وما يتصل بها من تحديات جغرافية وصعوبات تحققها فضلاً عن مخاطر أن تُسهم هذه الدولة في إعادة استنساخ النموذج الوظيفي للدولة القومية باعتباره أداة للرأسمالية.
ثالثاً: من الدولة إلى المجتمع:
تأسَّست الفلسفة الأوجلانية بشأن الدولة على طرحٍ نقديٍ عَميقٍ للتراكم الفكري الإنساني بدايةً من سقراط وأرسطو حتى أنصار الحداثة وما بعدها، وقد خلصت إلى أن ثاني دعائم الحداثةِ الأوروبية، هي الدولةُ القوميةُ المُشادة، وهي تُعادِلُ الرأسماليةَ على أقلِّ تقدير في التعبيرِ عن نظامٍ تفاقَمَت القضايا الاجتماعيةُ فيه إلى أقصاها، بدلاً من صياغة الحل الاجتماعي، فما كانت الدولة إلا أداةً اجتماعية ليس لها مؤسس مسؤول ولا فيلسوف، إنها أداة لا يوجد أي حلم إلا وتحققه تقريباً، ولا يزال ذلك هو الجانب الطاغي للدولة، وعلى هذا وجب العودة إلى مرحلة “المجتمع الطبيعي” التي يتقدم فيها المجتمع بكافة القيم المُؤسسة له على ما سواه، مثل القيم التي جسَّدتها المرأة كالحكمة والرحمة والعطاء …إلخ، والبيئة وما توجب على الإنسان من جهد للاعتناء بها للوصول إلى “المجتمع الأيكولوجي” الذي تختفي فيه اللصوصية والنهب والاحتكارات التي قامت عليها الرأسمالية لتحقيق غايةً أعلى هي الهيمنة والربح وقد كانت هذه الخلاصة نتيجة مباشرة للمنهاجية التي أعلَت من شأن الميثولوجيا بحكم اتساع نطاق البحث التاريخي إلى عصورٍ تاريخية سبقت “الكتابة” فلم يكن بإمكان المناهج الوضعية تأكيدها.
رابعاً: من الاشتراكية إلى التشاركية:
رُغم إيمان المفكر عبد الله أوجلان بالفكر الاشتراكي في بداية عمره، تأثراً بالمدِّ الماركسي الذي اجتاح العالم في سبعينات القرن العشرين، إلا أن منظوره النقدي قد اتسع ليطول كل شيء، حتى أن الماركسيةَ ذاتها لم تسلم من هذا النقد، وقد أعانه ذلك على كشف العديد من النقائص التي شابتها، كونها دارت في فلك الدولة القومية، فضلاً عن عجزها – أي الماركسية – عن تَخَطّي ذهنيةَ الحداثةَ الرأسمالية وعالمها العلمي وبُنَى ثقافتها المادية من خلال المؤسسات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية.
ولهذا، خلُصت الفلسفة الأوجلانية إلى ما يُعرف بـ “شبه الاستقلال الذاتي” الذي يضمن من خلال الإنسان إعادة بسط المجتمع للسيطرة على الاقتصاد؛ وهو نموذج يتحقق فيه قدراً وافراً من الوفاق بين الدولة القومية والأمة الديمقراطية، وفي ظل هذا الـ “شبه الاستقلال الاقتصادي” يرتبط مصير المجتمع بحتمية الاهتمام بالأيكولوجيا التي هي الإطار البيئي الذي يحيا فيه المجتمع الذي يعدُّ أحد ضحايا الاستغلال الرأسمالي بجانب المرأة، فالتنمية والاستقرار الريفي كجوهر للمجتمع الأيكولوجي الذي لا يعنيه سوى مُراكمة الربح وتكديس رأس المال بل يختزله في أدنى حدوده، وعلى هذا ينبغي العودة إلى إلى الأرضِ والزراعة وتأمين المواد الغذائية كجزء من مظاهر الحياةِ الأيكولوجية من شأنها إنقاذ البيئة من آفات المدنيّة وليس مجرد القضاء على البطالة، فمع دخول البشرية في العصر الرأسمالي، كونه عصراً للأزمات الاجتماعية كالإرهاب والخلل الطبقي والبطالة وتصنيع الفن والجنس والرياضة وتغلغل السلطة في كافة مفاصل وشرايين المجتمع، وهو ما يتناغم مع الرؤية الأوجلانية للاقتصاد باعتباره ساحة لتأمين احتياجات المجتمع من خلال النظام التشاركي. وعلى ذلك، يتوجب على الشرق الأوسط، المعروف بتنوعه البيئي والمناخي وعمقه التاريخي وثراءه الحضاري، أن يخوض ثورةً زراعية تتوازى مع إحياء دور المرأة التي تجذرت في عمق المجتمع الطبيعي، والتي أسهمت خلاله في في تحقيق الثورة الزراعية في منطقة زاغروس – طوروس، والحال نفسه بالنسبة للحضارة المصرية التي قامت على هامش وادي النيل. هذه الثورة تفرض بالضرورة انتقالاً إلى الاقتصادِ المحليِّ وآلياتِه شبهِ المستقلة، بمعنى ان يكون هناك قانونٌ اقتصاديٌّ لا ينكر ظاهرةَ السوقِ الوطنية، ولكنه يضعُ ديناميّاتِ السوقِ المحليةِ أيضاً في الاعتبار. إن ذلك يفرض الحاجة لقوانين اقتصادية تعنى بشؤون ترتيبِ المُلكِيّة، والشركات، والري والاستفادة الموارد المعنية في باطن الأرض، ونظيم الأسواق، والنظم المصرفية، والضرائب، بما يضمن تحقيق التناغمِ بين قوانين الاقتصاد سواء على المستوى الوطني أو المحلي.
ما سبق وغيره يعكس شكل التفرض الذي تتميز به الفلسفة الأوجلانية والتي انطلقت بالضرورة من ركيزة منهاجية متمايزة قادت نحو خلاصات متمايزة بالضرورة.