بدرخان نوري
القضية الكرديّة في المنطقة في أصلها لا تتعلق بالكرد بل هي مشكلة سياسيّة لدى أنظمة الدول التي يعيشون فيها، وتبدو المشكلة بأوضح صورها في تركيا، التي لا يقرّ نظامها بوجود القضية وأنّه دون حلّها لن تنعمَ البلادُ باستقرارٍ سياسيّ واقتصاديّ واجتماعيّ. وفيما واصلت الحكومات التركية المتعاقبة على مدى قرن سياسة تهميش وإقصاء الكرد والتضييق عليهم، إلا أنّها طرحت من وقت لآخر عناوين للحلّ السياسيّ، لم تخرج عن أطر المناورة والمراوغة لتروّج صوراً إعلاميّة مضللة لكسب الوقت واجتياز مفاصل انتخابيّة، وما طرحه دولت بهجلي لا يخرج عن هذا السياق.
تقلب مواقف وفقدان مصداقيّة
ما يروّج على أنّه مبادرة من طرف رئيس حزب الحركة القوميّة دولت بهجلي لحلّ القضية الكرديّة، يأتي نتيجة جملة متغيراتٍ تشهدها منطقةُ الشرق الأوسط على مدى أكثر من أربعة عقود من الزمن، ويقينٍ تركيّ بأنّه لا يمكنُ إنهاء القضية الكرديّة، سواءٌ عبر أساليب الإنكار والتضييق في الداخل أو عبر تصديرها عبر الحدود إلى دول الجوار بالعدوان وشنِّ الهجمات والقصف، بذريعةِ الأمن القوميّ، والنار التي أوقدتها أنقرة لابد أن ترتد إلى الداخل التركيّ، وهذه الحقيقة سلّم بها بهجلي بعدما تجاوز أطر الفكر الحزبيّ، ليفكر بعقل الدولة، سابقاً بذلك حليفه أردوغان الذي بقي أسيرَ طموحاته السلطويّة وأجندته الحزبيّة.
ما أقدم عليه بهجلي ليس جديداً، ففي مفاصل عديدة في تاريخ تركيا التي شهدت الانقلاب على استحقاقات القضية الكرديّة اعتباراً من اتفاق لوزان 24/7/1924، محطات عديدة توقفت فيها حكومة أنقرة عند القضية الكرديّة أقرّت فيها الحكومة التركيّة بوجودِ القضية الكرديّة وطرحت عناوين الحلّ السياسيّ.
من جملة هذه المحطات أقر الرئيس التركيّ سليمان ديميريل عام 1991 بالقضية، عندما قال: إنَّ “القضية الكردية واقع”، وقالت تانسو تشيللر: “إن حل مشكلة الباسك نموذج قابل للمحاكاة في تركيا”، ومن ثم مع مسعود يلماز الذي قال: إن “معايير كوبنهاغن تمر في آمد”.
وفي 12/8/2005، أعلن أردوغان في خطابه بِميدان مدينة آمد الكرديّة أنّه “يعترف بالقضية الكرديّة”، وتعهد بحلها، بعدما ظلت عالقة مدة ثمانين عامًا. وروّج الإعلام التركيّ حينها أنّ الإعلانَ ليس مجردُ تصريحٍ مكرر كما فعل سياسيون سابقون ولكنه لم يقدم على اتخاذ أيّ خطوة جدية، لإحداث تغيير حقيقيّ ليؤكد صدق نيته.
وشهدت سنوات 2013 ــ 2015 مساعٍ لحلّ القضية الكرديّة، إلا أنّ أردوغان انقلب عليها، وقال في تجمع جماهيريّ حاشد نظمه منتدى “التضامن المدني” في 20/9/2015: “لم يعد هناك في تركيا “قضية كردية” في ضوء الإصلاحات التي أقدمت عليها الدولة، وإنّما هناك “مشكلة إرهاب””. وجاء ذلك متزامناً مع فشل حزبه في كسب الأغلبية في الانتخابات البرلمانيّة التي جرت في حزيران 2015، وتجاوز “حزب الشعوب الديمقراطيّة”، العتبة الانتخابيّة المقدرة بنسبة 11% من الأصوات، وحينها كانت مدينة كوباني تشهد أعتى المعارك ضد مرتزقة “داعش”، وشهدت تركيا سلسلة تفجيرات اعتباراً من تفجير سروج، وأراد أردوغان فبركة اتهامات بالإرهاب بحق الكرد، لتحصيل مزيدٍ من مقاعد البرلمان في جولة إعادة الانتخابات، وفي 5/10/2022 جدد أردوغان، نفي وجود قضية في بلاده اسمها القضية الكرديّة. وقال في اجتماعٍ أسبوعي لحزب العدالة والتنمية، في البرلمان: “ليس لدينا شيء اسمه القضية الكرديّة، في البرلمان التركيّ هناك وزيران كرديان، وهما صديقان لي”.
في الواقع لا مصداقيّة لكلام أردوغان وحليفه بهجلي، ففي الوقت الذي يدعوان فيه للسلام والعيش المشترك في دولةٍ ديمقراطيّة للكرد والترك، يتواصل العدوان التركيّ عبر الحدود على كرد سوريا، وترتكب مرتزقة المجموعات الموالية لأنقرة كل أنواع الانتهاكات بحق الكرد في المناطق الكرديّة التي تحتلها تركيا في سوريا. وما تريده أنقرة ضمناً هو دعوة للاستسلام، وليس للسلام، وتحصيل إقرار كرديّ بإسقاط التوصيف الحقوقيّ عن القضية الكرديّة وأنّها ليست قضية شعب يناضل من أجل الحرية وحقوقه الوطنيّة، وبعبارة أخرى تحقيق نصرٍ سياسيّ بعد الفشل العسكريّ، وحرب الكرد بذريعة الإرهاب.
ليبقى السؤال مطروحاً عن سر التغير في موقف أردوغان حيال القضية الكرديّة في هذا التوقيت، والحقيقة أنّ الإجابة تكمن بصمودِ الكردِ بقواهم المدنية والعسكريّة في سوريا، والفشل العسكريّ في معارك سوريا ومناطق زاب ومتينا وخاكورك وغاري وجودي وتلة آمدية وبهار في باشور كردستان.
في الواقع لم يطرأ أيّ تغيّر على العقليّة الأيديولوجيّة لحزب الحركة القوميّة ورئيسها بهجلي، وهي ثابتة منذ قرن من الزمن وتقوم على التنكر لكلّ الهويات القوميّة والمذهبيّة والتي تختلف عنهم وليس بالضرورة مخالفة، ولم تتحرك إزاء قرنٍ من الانتهاكات والاعتقالات بحق الكرد والمحاولات المستمرة لاقتلاعهم من الجغرافيا والتاريخ. والانقلاب على نتائج الانتخابات البرلمانيّة والبلديّة باعتقال الشخصيات الكرديّة الفائزة بالاختبار الانتخابيّ وآخرها اعتقال رؤساء البلديات بعد انتخابات 31/3/2024، وبينهم أحمد تورك رئيس بلدية ماردين أحد القامات الوطنيّة الكرديّة.
موعد تاريخيّ يحدد ملامح المستقبل
أولى خطوات مبادرة بهجلي كانت في البرلمان عندما صافح النواب الكرد في 1/10/2024، وذلك في اليوم الأول من السنة التشريعية الجديدة للبرلمان التركيّ، أعقبها بعد أيام طرح “مبادرة استثنائيّة وتاريخيّة”، وتتألف المبادرة على معادلة من شقين. وتتلخص برفع العزلة عن القائد عبد الله أوجلان، وأن يحضر في البرلمان، ويتحدث ويعلن حلّ حزب العمال الكردستانيّ، وقال إنّه في حال ألقى مثل هذا الخطاب فقد يكون هناك سبيل لإطلاق سراحه من السجن بموجب المادة الثالثة من الاتفاقية الأوروبيّة لحقوقِ الإنسان، في إطار ما يُعرف باسم “الحق في الأمل”. ويمكن اعتبار إقرار بهجلي في 22/10/2024، بالقائد أوجلان كطرفٍ محاورٍ تطوراً إيجابيّا ومتغيّراً في فهم القضية الكرديّة بعد عقودٍ طويلة.
في 30/10/2024 أعرب أردوغان دعمه الكامل لدعوة بهجلي بالانفتاح على الكرد، ليوحي بأنّها خطوة لم تكن فرديّة، بل تحظى بقبول شخصيّ منه، ومن حزب العدالة والتنمية، إلا أنّ أردوغان الذي تأخر في إعلان دعمه، له حسابات مختلفة، ويسعى لتوظيفِ المبادرة لصالحه في البقاء على رأس السلطة.
وفي 12/11/2024، جدّد بهجلي، دعوته للقائد عبد الله أوجلان، لإنهاء الصراع في البلاد. وقال خلال اجتماعٍ لمجلس الحزب، إنّ موقفه ثابتٌ بشأن مطالبة القائد عبد الله أوجلان، بالإعلان العَلني عن حلِّ حزب العمال الكردستاني، كشرطٍ لأي تفاعُلٍ سياسيٍّ مُستقبلي.
وبعد موافقة من الحكومة التقى عضوا البرلمان عن “حزب المساواة وديمقراطية الشعوب” برفين بولدان، وصري سريايا أوندر، القائد عبد الله أوجلان في سجن إيمرالي يوم 28/12/2024. وفي اليوم التالي، نقلا عنه تصريحاً عبّر فيه القائد أوجلان عن امتلاكه القوة والإرادة للمساهمة الإيجابية في النموذج الجديد الذي أطلقه بهجلي وأردوغان، مؤكدا أن هذه الجهود يمكن أن تحقق تحولاً ديمقراطيّاً، ودعا جميع الأطراف السياسية في تركيا إلى المساهمة الإيجابية.
ورجّح الرئيس المشترك لـ”حزب المساواة وديمقراطية الشعوب” (ديم) تونجر باكيرهان، الثلاثاء، أن يطلق القائد أوجلان النداء السبت الخامس عشر من شباط الجاري في اليوم الذي يتوافق مع الذكرى السادسة والعشرين لعملية القرصنة التي نفذت في إطار مؤامرة دوليّة وأدت إلى أسر القائد أوجلان، ونقله إلى تركيا، وقال: “نهتم بهذه الدعوة وندعمها ونقف وراءها، ونطالب الحكومة بأن تقوم بدورها وفقاً لهذا النداء التاريخيّ”. وبذلك فإنّ؛ تركيا ستكون بتاريخ 15 شباط 2025، على موعد استثنائيّ تشهد فيه إطلاق “نداء تاريخيّ” قد يرسم ملامح مرحلة لن يكون ما قبلها كما بعدها على صعيد القضية الكرديّة.
المفارقة أنّ هذه المبادرة تنطوي على إقرارٍ رسميّ للحكومة التركيّة بحقيقةٍ لطالما تهربت منها، وهي أنّ إيمرالي هي مرجعيّة السلام، والعودة إليها يعني أنّ الحكومة التركيّة تدرك بوجود الحلّ السياسيّ ووجود الشخصيّة القادرة على إنهاء الصراع المسلح بوسائل سلميّة، وبذلك فإنّ استمرار احتجازه وعزله عرقلة للحلّ السياسيّ ومعاندةٌ لا مبررَ لها.
ويخوض حزب “العمال الكردستانيّ” منذ أكثر من أربعة عقود نضالاً مسلحاً ضد الدولة التركيّة. ومرّ هذا النضال بمراحل تصعيديّة في عقدِ التسعينات، كما شهد جولات من وقف إطلاق النار والتهدئة. والسؤال سيطرح حول مساحة زمنيّة تبدأ منذ شباط 1999، عندما نفذت أنقرة عملية القرصنة وأسرت القائد أوجلان في كينيا، والمفارقة الصارخة أنّ من وُجهت اتهامات بالخيانة والتحريض على الإرهاب، وحكمت عليه بالسجن المؤبد، بيده مفتاح السلام!
ثقة بالقائد وليس بمبادرة بهجلي
وأردوغان لم يشأ خوض المغامرة السياسيّة علناً دون حقائق ملموسة خشية الخروج خالي الوفاض، فيما يتطلع إلى مكاسب يستثمرها في تعديل الدستور وإطالة عمر سلطته حتى انتخابات 2028 ومواجهة خصومه العلمانيين في حزب الشعب الجمهوريّ، ولكن نتائج التجارب السابقة مع أردوغان غير مشجعة للكرد. وفيما يسعى القائد أوجلان باتجاه ترتيبات دستوريّة تضمن التعايش بين الكرد والأتراك على قدم المساواة، ويشعر الجميع بالانتماء للدولة. فإنّ تصريحات التحالف الحاكم حتى الآن لا تدعم سلاماً مستداماً ولا تتضمن خطابا يعزز الثقة.
الحقيقة الثابتة أنّه في الفترات التي بلغ فيها الصراع بين الدولة التركيّة وحزب العمال الكردستاني ذروته، فإنّ المبادرات التي أبداها القائد أوجلان ونهجه التوجيهي كانت تحيي الأمل بالحل والسلام. ومنذ عام 1999 يخضع القائد أوجلان لنظامِ عزلٍ صارمٍ، وقد أكّد في آخر اجتماعين له مع وفد حزب الشعوب للمساواة والديمقراطيّة على ضرورة عدم إهدار الفرصة لتحقيق “الحل والسلام”.
وقالت المشتركة في حزب “ديم” والمسؤولة عن الشؤون الخارجيّة إبرو جوناي في تصريح لموقع “الحرة”: إنّ “بهجلي والبنية السياسيّة القومية المتطرفة التي يمثلها كانوا يتبنون نهجاً عنصريّاً تجاه القضية الكرديّة حتى قبل تأسيس حزب العمال الكردستانيّ، معتبرين الكرد تهديداً”. وأضافت إنّ “الادعاء بأنّ القضية الكرديّة ستُحلُّ بمجرد إلقاء حزب العمال الكردستاني للسلاح يبقى غير كافٍ في هذا السياق”.
وأوضحت إبرو: أنّه لا يُعرف محتوى ومدى “النداء” الذي من المقرر أن يطلقه القائد أوجلان، لكنها تؤكد أنّ “جميع النداءات التي أطلقها حتى الآن كانت دائماً صادقة وموجهة نحو الحلّ”. وأضافت: “نتوقع أن يكونَ هذا النداء أيضا بنفس الاتجاه”. وأشارت إبرو جوناي إلى وجود تقاسم للأدوار بين أردوغان وبهجلي، إذ ليس من صلاحيات الأخير وحده تخفيف العزل المفروض على القائد أوجلان في جزيرة إيمرالي، ولا يمكن لأحد مقابلته دون موافقة الرئيس التركيّ، إلا أنّ بهجلي كان الواجهة.
النائب الكرديّ، عمر أوجلان، والذي كان التقى القائد قبل ثلاثة أشهر، قال في لقاء على قناة “روداو” هناك أشياء من المهمّ أن تُقال الآن، وردت على لسان القائد أوجلان؛ ومنها أن “حلّ المشكلة الكرديّة يجعل الشرق الأوسط ينتظر مستقبلاً واعداً. أمّا في حال فشل ذلك، فإنه سيكون في المنطقة 50 غزة جديدة بدلاً من غزة واحدة، وتركيا ستكون ضمن هذا الواقع”.
لا مصداقية لمحتل بالسلام
ورغم أنّ المبادرة التركيّة باتت حديث الأوساط السياسيّة التركيّة إلا أنّها لم تتجاوز في الحقيقة العنوان، وهي عملية يصعب التنبؤ بمآلاتها. وتسود تلك الأوساط العديد من الأسئلة، في مقدمها هل سيدعو القائد أوجلان إلى إلقاء السلاح؟ والجواب ببساطة أنّه لا يمكن توقع إلقاء السلاح دون التزامات حكوميّة وخارطة طريق واضحة المعالم، إذ إنّ ذلك يجهض العملية في بداياتها.
تدرك أنقرة جيداً موقع القائد أوجلان للكرد وأنّه رمز كرديّ ليس في تركيا وحسب، وكذلك تأثيره في حزب العمال الكردستاني، وتستبعد أن يقدم تنازلات دون ضمان رسميّ تركي مهمّ باعتراف دستوريّ بالهوية”. والحكومة تدرك جيدا الخطوات التي يجب اتخاذها لإثبات جديتها في هذا المسار، الكرديّة والحياة الطبيعيّة، كما تستبعد أن يحاولَ فرضَ أمر واقع على قيادة “الكردستانيّ” في جبال قنديل لا يحظى بموافقتها.
وإذ تتزامن مبادرة بهجلي مع سقوط النظام السوريّ، بادرت أنقرة إلى الضغط على سلطة دمشق المؤقتة لمطالبة قوات سوريا الديمقراطية بالتخلي عن سلاحها تحت عنوان تشكيل جيش سوريّ والانضمام إليه كأفراد، فكان رد قيادة قسد أنّها مستعدة للانضمام للجيش السوريّ القادم كتلة واحدة، وليست في وارد التخلي عن السلاح في ظل استمرار العدوان التركيّ.
وفي أقصى حدود تفاؤل ساسة أنقرة أنّ القائد أوجلان قد يطرحُ مسألة إلقاء مشروط للسلاح بالنسبة لـ”حزب العمال الكردستاني”، ولكن ذلك لن يتجاوز الحدود إلى سوريا.
من الضروري في هذه المرحلة إنهاء ظروف العزل المفروضة على القائد أوجلان وضمان الإفراج عن عشرات الآلاف من السجناء السياسيين الذين تم اعتقالهم تعسفيّاً لبدء عملية تفاوضيّة تركّز على الحل. إذ تؤكد تجارب حل النزاعات في العالم أنّ نتائجها رهن بالظروفِ وجدية المساعي. وعلى حكومة أنقرة إعادة النظر بالقوانين التي تقيّد حرية التعبير وخاصة قانون مكافحة الإرهاب لتتناسب مع معايير الاتحاد الأوروبيّ وتجري تعديلات دستوريّة وتضمن مشاركة الأحزاب في البرلمان، ووقف عدوانها على كرد سوريا وإنهاء احتلال مناطقهم، إذ لا مصداقيّة لدعوة للسلام من دولة محتلة وتواصل العدوان.