دجوار أحمد آغا
في الجزء الأول من تقرير “مبادرات القائد عبد الله أوجلان للسلام والرد التركي” سلطنا الضوء على جميع المبادرات والمساعي التي نادى بها القائد عبد الله أوجلان لإحلال السلام، والموقف التركي المعادي له، منذ المبادرة الأولى للسلام في عام 1993ولغاية تشبيك خيوط المؤامرة على القائد عبد الله أوجلان وتنفيذها في عام 1999.
في الجزء الثاني من هذا التقرير أيضاً سنتطرق إلى المفاوضات واللقاءات التي حصلت حتى اليوم مع القائد عبد الله أوجلان وتركيزه على إحلال السلام بين الشعبين التركي والكردي وحتى في الشرق الأوسط ككل.
مفاوضات السلام من 2012 إلى 2015
ربما كانت هذه المبادرة الأكثر قُرباً للحل من جهة، والأكثر عنفاً ودموية بعد إفشالها من جانب الدولة التركية من جهة أخرى، ففي العام 2012 بدأت دولة الاحتلال التركي وعبر رئيس جهاز الاستخبارات العامة “حقان فيدان” بالحوار مع القائد عبد الله أوجلان في معتقل جزيرة إِمرالي بهدف التوصّل إلى اتفاق من شأنه أن يُنهي النزاع المسلح ويحلُّ القضية الكردية، خلال هذه المفاوضات التي شاركت فيها أربعة أطراف وهي: الحكومة التركية، حزب الشعوب الديمقراطية، القائد أوجلان، قنديل، أكّدت فيها الأطراف الكردية بأن القائد أوجلان هو من يمثلها، حيث توصّل الطرفان التركي والكردي إلى اتفاق في 28 شباط 2015 مكون من عشرة بنود من شأنه أن يُنهي الصراع ويحل القضية الكردية بشكلٍ سلمي. عُرف الاتفاق باسم “اتفاق دولمة باخشة” نسبةً الى القصر الشهير في تركيا والذي كان من المفترض أن يتم التوقيع على الاتفاق فيه.
بنود اتفاقية دولمة باخشة
كانت بنود اتفاقية دولمة باخشة على الشكل التالي:
1ـ إعادة تعريف محتوى العملية السياسية الديمقراطية.
2ـ تعريف الأبعاد المحلية والوطنية للحل الديمقراطي الخاص بالمشكلة الكردية.
3ـ دسترة حقوق وحريات المواطن بشكلٍ حضاري.
4ـ تحديد العلاقة بين الدولة والسياسة الديمقراطية والعمل على تضمين هذه العلاقة بأبعاد مؤسساتية.
5ـ تحديد الأبعاد السياسية والاقتصادية لعملية السلام.
6ـ تحديد العلاقة بين الإجراءات الأمنية والديمقراطية بشكلٍ يخدم الحريات العامة لكافة المواطنين بلا استثناء.
7ـ وضع ضمانات قانونية للحقوق الثقافية والاجتماعية وحقوق المرأة.
8ـ الاتجاه للمفهوم الديمقراطي التعددي فيما يتعلق بالهويات الثقافية والعرقية المتنوعة الموجودة في تركيا.
9ـ إعادة تعريف مصطلح الجمهورية الديمقراطية.
10ـ دستور جديد يكفل كافة الحملات الديمقراطية التي تم الاتفاق عليها خلال عملية السلام.
لكن هذه الاتفاقية لم توقّع، بسبب تراجع أردوغان الذي كان وقتها رئيساً للوزراء، وبعد أن حصل على مبتغاه خلال السنوات الثلاث الماضية وقام بتوطيد نظام حكمه في كافة مفاصل الدولة، أعلن في تموز 2015 رفضه للاتفاقية بسبب الأداء المفاجئ لحزب الشعوب الديمقراطية وحصوله على المركز الثالث في البرلمان على مستوى تركيا، هذا الرفض من جانب أردوغان، أدى الى ظهور المقاومة المدنية في العديد من المدن والبلدات الكردية في باكور كردستان التي أُعلنت الإدارة الذاتية فيها.
انتهاء الهدنة وتجدّد القتال
انتهت الهدنة التي استمرت لثلاث سنوات، وبدأت الحرب تستعر مجدداً، ولكن هذه المرة بشكلٍ مختلف، إذ استهدفت دولة الاحتلال التركي وبشكلٍ ممنهج المدن والبلدات المنتفضة بكافة صنوف الأسلحة بما فيها الطائرات الحربية الدبابات والمدافع، وقامت بارتكاب مجازر بحق المدنيين خاصةً في مدن جزرة، سلوبي، نصيبين، سور آمد وغيرها، بالإضافة إلى قيامها بحملة اعتقالات واسعة بحق كوادر وأعضاء ومؤيدي حزب الشعوب الديمقراطية بمن فيهم النواب المنتخبين ورؤساء البلديات، إلى جانب فصل عشرات الآلاف من الموظفين والجنود والقضاة وغيرهم ممن لم يكونوا ينسجموا مع رؤية أردوغان بذريعة محاولة انقلاب ضده. الأمر الذي أثبت بأنه لا يمكن معالجة القضية الكردية بشكلٍ منفصل عن عملية التحوّل الديمقراطي في تركيا.
لكن في حقيقة الأمر فإن السبب الرئيس وراء فشل الاتفاق وعدم التوقيع عليه من جانب أردوغان، كان استغلال الوقت لإعادة تنظيم نفسه وحزبه (العدالة والتنمية) بالإضافة إلى الحصول على أصوات الكرد من أجل تهيئة نظام رئاسي، لكنه فقد العديد من الأصوات مقابل تجاوز حزب الشعوب عتبة الـ 10 % والدخول بقوة إلى البرلمان ليصبح ثالث كتلة برلمانية على مستولى تركيا بعد العدالة والتنمية وحزب الشعب الجمهوري.
ماذا وراء مبادرة دولت بهجلي؟
بعد مضي 44 شهراً من العزلة المطلقة وتطبيق نظام الإبادة والتعذيب على القائد والمفكر عبد الله أوجلان، سمحت السلطات التركية لوفد من حزب المساواة وديمقراطية الشعوب بزيارة إمرالي واللقاء مع القائد عبد الله أوجلان في 28 كانون الأول 2024. جاءت هذه الزيارة بعد التطورات الخطيرة التي جرت في ساحة الشرق الأوسط مع سقوط نظام بشار الأسد في سوريا وانتهاء الدور الإيراني والروسي في الأزمة السوريّة بالإضافة إلى قيام إسرائيل ومن وراءها الولايات المتحدة الأمريكية بتحجيم ما يُسمى بمحور المقاومة المتمثل بحركة حماس الفلسطينية، حزب الله اللبناني والنظام السوري أذرع إيران في المنطقة.
طبعاً هذا الأمر هو ما دفع بدولت بهجلي رئيس حزب الحركة القومية الفاشي والمعادي للكرد بشكلٍ كبير إلى الدعوة عن إمكانية السماح للقائد أوجلان بالذهاب إلى البرلمان التركي والإعلان عن حل حزب العمال الكردستاني مقابل إعطاؤه ما يُعرف بـ “حق الأمل” أي الإفراج عنه من المعتقل بعد 27 عاماً من السجن. رغم معرفة القائد بكل هذه الأمور إلا أنه قال لوفد حزب المساواة خلال لقائه الأول بهم إنه “.. يستطيع تحويل العملية من العنف إلى السياسة”.
ما قامت به السلطات التركيّة
رغم تأكيد أردوغان على تأييده لمبادرة حليفه في التحالف الحاكم بهجلي ووصفه بالشجاع، إلا إنه في الوقت نفسه، أوعز إلى وزير داخليته إلى كرد رؤساء ثلاث بلديات كردية (ميردين، إيله “باطمان”، خلفتي) منتخبين بشكلٍ رسمي ووضع بدلاء من حزبه مكانهم بحجة إنهم مرتبطين بحزب العمال الكردستاني الذي تصنّفه تركيا بأنه حزب “إرهابي”، وفي الوقت نفسه تفاوض زعيمه المعتقل لديها!
من جهة أخرى؛ استمرت في حربها الهمجية بحق قوات الدفاع الشعبي في جبال كردستان بالإضافة الى استخدام المسيّرات في اغتيال الكوادر والقيادات المناضلة سواء في باشور أو روج آفا، كما أنها ما تزال تشن الحرب على مناطق روج آفا وتقصف المدنيين خاصةً في محيط سد المقاومة (سد تشرين) من أجل كسر إرادة المقاومة لدى شعوب المنطقة الذين يقفون بقوة وعزم وثبات إلى جانب قواتهم قوات سوريا الديمقراطية التي تُسطّر ملاحم بطوليّة بشكلٍ يومي في مواجهة الاحتلال التركي ومرتزقته.
موقف القائد عبد الله أوجلان
لكن القائد أوجلان ورغم مرور 26 عاماً على المؤامرة الكونية بحقه، لا يزال متمسكاً برؤيته لحل كافة القضايا العالقة في كردستان وتركيا وعموم الشرق الأوسط من خلال طرحه لمشروع الأمة الديمقراطية الذي أثبت نجاحه بشكلٍ ملموس وعلى أرض الواقع في مناطق روج آفا وشمال وشرق سوريا. لم يركّز القائد على حل المسألة الكردية في باكور كردستان فحسب، بل سعى من أجل إحلال السلام في المنطقة والعالم، فقد أكّد القائد على أهمية إعادة تعزيز أواصر الأخوّة التركيّة الكردية، كونها مسؤولية تاريخية وضرورية لمصير كافة الشعوب، بالإضافة الى ضرورة إنجاح عملية الحل، حيث قال بأنه ينبغي أن تقوم جميع الدوائر السياسية في تركيا بأخذ زمام المبادرة والتصرف بشكلٍ بنّاء، وتقديم مساهمات إيجابية، دون الوقوع في حسابات ضيّقة ودورية، ولا شك إن أحد أهم الأسباب لهذه المساهمات سيكون مجلس الأمة التركي الكبير (البرلمان).
حقيقة التقارب التركي من السلام
السلطات التركية وعلى مرِّ عقودٍ من الزمن، وفي كل مرة يطرح فيها القائد عبد الله أوجلان مبادرة من أجل الحل السياسي للقضية الكردية، تقوم بوأدِ هذه المبادرات بعد أن تستغلها لصالحها بشكلٍ كبير، وهي لن تختلف في هذه المرة عن سابقاتها، فهي تقول من جهة بأنها سوف تسمح للقائد أوجلان بالتوجه بخطاب عبر التلفاز في الخامس عشر من شباط الجاري من أجل حل القضية الكردية في باكور كردستان، وتستمر في هجماتها واعتداءاتها على الكُرد في كل مكان، ففي باكور كردستان؛ ما يزال هناك عشرات الآلاف من المعتقلين في السجون والمعتقلات التركيّة، وفي باشور هناك المزيد من التدخّل وإقامة القواعد العسكرية بهدف احتلال المنطقة، أما في روج آفا فالهجمات مستمرة والاعتداءات بشكلٍ يومي على الرغم من مساعي الإدارة الذاتية الديمقراطية وقوات سوريا الديمقراطية من أجل الحوار والسلام مع تركيا والسلطة الجديدة في دمشق، إلا أن أنقرة مُصرّة على المُضي قُدماً في مشروعها الهادف إلى إحياء الميثاق الملي وإعادة احتلال المنطقة بأي شكل من الأشكال.
وفي الخِتام
مهما حاولت السلطات التركية للوقوف في وجه التغيرات التي تجري في الشرق الأوسط، لكنها لن تستطيع ولابد لها في نهاية المطاف من الرضوخ للأمر الواقع، فقوى الهيمنة العالمية التي مرّ 100 عام على رسمها لخارطة الشرق الأوسط، أصبحت تُدرك جيداً بأن الشعوب قد تغيّرت وأضحت تدرك ذاتها بشكلٍ كبير، وقد أثبتت لنفسها وللعالم بأنها قادرة على الحياة والعيش بعيداً عن سلطات الدول القمعية والدكتاتورية الحاكمة في الشرق الأوسط ولا بد من تحوّل هذه الدول إلى الديمقراطية وحماية حقوق الإنسان.
لن ينخدع الكرد بوعود أردوغان وحليفه بخجلي لكسب الوقت من أجل الوصول بأصوات الأتراك إلى تعديل الدستور من خلال المادة 116 التي تنصُّ على ” إذا قرر البرلمان إجراء انتخابات مبكرّة فيمكن للرئيس الحالي من الترشح للرئاسة وكأنه لم يخدم مؤخراً” وذلك ليستطيع أردوغان الترشح مرةً أخرى لرئاسة الجمهورية، فأردوغان بحاجةٍ إلى أصوات النواب الكُرد من أجل استمرار البقاء في السلطة لسنوات قادمة.