حمزة حرب
سباقُ نفوذٍ خفي في سوريا تخوضه دول عربيّة بقيادة السعودية من جهة ودولة الاحتلال التركيّ من جهة ثانية، بعد سقوط نظام بشّار الأسد، وهو سباقٌ قديمٌ يتجدّد وتتغيّر جغرافيته مع تبدّل معطيات سياسيّة وإقليميّة ودوليّة في منطقةِ الشرقِ الأوسط، فقد تبدّلت المشهديّة بعد سقوط النظام السوريّ السابق الذي انخرطت السعودية في محاولات إعادة تعويمه نسبيّاً وسيطرة هيئة تحرير الشام على السلطة.
رغم تحسّنِ العلاقاتِ الدبلوماسيّة والسياسيّة بين تركيا ودول عربيّة، لكن اختلاف المشاريع الإقليمية يُحتّم التنافسَ السياسيّ في المجالِ الحيويّ بين الجانبين، خصوصاً إنّ الدولَ الخليجية قلقةٌ من العلاقة الإيجابيّة بين أنقرة والمجموعات المتطرفة، بينما تسعى تركيا إلى أدوارٍ مُتقدمة في الدول المتاخمة لحدودها الجنوبيّة، وأن ترثَ الدور الإيرانيّ المتآكل.
سوريا ومسار التنافس الإقليميّ
كان سقوط نظام بشار الأسد حلقةً من سلسلةِ التغييرات الكبيرة التي تُرسم من خلالها معالم هندسة الشرق الأوسط وإعادة توزيعِ موازين القوى العسكريّة والسياسيّة في المنطقة، بعد فشلِ المنظومة التي هيمنت على المنطقةِ طيلة السنوات الماضية.
مما لا يختلف عليه اثنان إنَّ السعودية وتركيا تدركان جيداً حجم التغير الاستراتيجيّ في الشرق الأوسط الذي يشكّله سقوط النظام السوريّ، لا سيما انتهاء وهج النفوذ الإيرانيّ في المنطقة وانقطاع طريق طهران ــ بيروت، ولذلك فإنَّ الفراغ الذي أحدثه انهيار هذا المشروع كبيرٌ والمسعى التركيّ لإملائه يعني عملية استبدال المشروع الإيرانيّ بآخر تركيّ، وهذا ما لا ترغب به الدول العربيّة بقيادة السعودية.
الموقفُ السعوديّ يهدفُ بشكلٍ أساسيّ إلى جعل هذا التحوّل نهائيّاً، بمعنى إنجاح التجربة السوريّة الجديدة واحتوائها عربيّاً، فالرياض ترى في خروج سوريا من تحت النفوذ الإيرانيّ مصلحة عربيّة، وعدم إفساح المجال للنفوذ التركيّ مصلحة استراتيجية مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف العقائديّ والإيديولوجيّ والتنافس المتبادل بينهما في المنطقة.
وعلى الرغم من أنّ النهج السعوديّ تجاه إدارة هيئة تحرير الشام يتّسم بالحذر، لأنّها تخشى أن هذا الأمر ربما ينذر بسيناريو عودة محتملة للإسلام السياسيّ لحكم دولة هامة في المنطقة على غرار ما حدث مع محمد مرسي بعد اعتلائه سدة الحكم في مصر وبالتالي تغلغل للنفوذ التركيّ.
ولا ننسى إنَّ الرياض التي خسرت أمام طهران في السباق لممارسة النفوذ في العراق فيما بعد سقوط نظام صدام حسين، تسعى إلى استخدام المساعدات جزئيّاً كوسيلةٍ لمواجهة تحركات أنقرة في سوريا وألا تعيد الخطأ الجسيم الذي اُرتكب في العراق بعد سقوط نظامه.
كما أنّ الرياض وإلى جانب محاولتها الانخراط بشكلٍ أكبر في الملف السوريّ، تنصبّ مساعيها بشكلٍ رئيسيّ على ملفاتِ متعلقة بالإرهاب وتهريب المخدرات، في ظلِّ المخاوف المتزايدة لدى بعض الدول العربيّة، وعلى رأسها مصر، من تحوّل سوريا إلى بؤرةٍ للإرهاب، بسببِ وجود عناصر غير سوريين ضمن مجموعات متطرفة، بعضها مرتبطٌ بتنظيم “القاعدة”.
يبدو أنَّ إدارة دمشق الحالية تتغنّى بالنموذجِ السعوديّ، وهو ما عبّر عنه بصراحة وزير الخارجية السوريّ في إدارة هيئة تحرير الشام أسعد الشيباني أثناء حضوره في مؤتمر “دافوس” في 22/1/2025، داعياً إلى ضرورة رفع العقوبات لتكون الخطوة الأساسيّة نحو تمكين الشعب السوريّ وتحسين أوضاعه وبناء دولته التي تستلهم تجارب ناجحة من وجهة نظره على رأسها تجربة المملكة العربيّة السعودية ولم يأتِ على ذكرِ تركيا، وقال الشيباني إنّ “دمشق تعمل على إقامة شراكات مع دول الخليج في قطاعي الطاقة والكهرباء”.
وفي خطوةٍ ذات دلالةٍ سياسيّةٍ، كانتِ الرياض أول محطةَ لرئيسِ سلطة دمشق الجولاني، فزارها الاثنين 2/2/2025، والتقى ولي العهد السعوديّ الأمير محمد بن سلمان.
في سياقِ الحِراك السياسيّ الذي تقوده أنقرة حول سوريا، إذ أجرى وزير خارجية دولة الاحتلال التركيّ، هاكان فيدان، اتصالاً مع نظيره الأمريكيّ ماركو روبيو، في 22/1/2025، وبحسب الخارجية الأمريكيّة فقد شدد الوزير روبيو على ضرورة إجراء عملية انتقال شاملة في سوريا، وضمان أن تمنع الحكومة الجديدة تحول البلاد إلى مصدر للإرهاب الدوليّ، وحرمان الجهاتِ الفاعلة الخبيثة الأجنبيّة من فرصة استغلال انتقال السلطة لتحقيق أهدافها الخاصة، وهذا ما يمثل أول موقف للإدارة الأمريكيّة الجديدة بقيادة دونالد ترامب مما يجري في سوريا.
الواقع الداخلي مُقلِق للعرب والغرب
رغم كلِّ المؤشرات الإيجابيّة التي تصدر عن حكومة “هيئة تحرير الشام” والتي وُصفت بأنّها مطمئنة، إلا أنّ الداخل السوريّ ومنطقة الساحل لا تزالان في وضع يُرثى له جراء عملياتِ القتل والخطف بدوافع انتقاميّة على خلفيّةٍ طائفيّةٍ، خلال حملات تنفذها مجموعات مرتزقة؛ الأمر الذي ينذر باحتمالِ انفجار الوضعِ أمنيّاً.
أنشأ ناشطون تجمعاً حمل اسم “مجموعة السلم الأهلي في حمص” على سبيل المثال، وأصدروا بياناً تضمّن توثيقاً لـ 13 انتهاكاً في قرى ريف حمص الغربيّة، بينها عملية إعدام ميدانيّ لشابين في قرية خربة الحمام، واعتداءات لفظيّة وجسديّة، وتعمداً لإهانة المواطنين، وعمليات سرقة للمصاغ الذهبيّ والمواشي في قرية مريمين بريف حمص.
وذكر البيان أنَّ مناشدات وصلت إلى المجموعة من أهالي قرى عرقايا، والشنية، وحداثة، والهرقل، تفيدُ بوجود إصابات بين المدنيين نتيجة استهدافهم بأسلحة خفيفة ومتوسطة، مضيفاً أنّ هؤلاء لم يتلقّوا، حتى لحظة نشر البيان، أيّ إسعافات بالرغم من إبلاغ الهلال الأحمر ومنظمة الدفاع المدنيّ- الخوذ البيضاء كما تنسحب هذه الانتهاكات إلى مناطق أخرى كالساحل السوريّ، وهو ما أثار حفيظة الدول الخليجيّة التي ضغطت باتجاه ضبط هذه الانتهاكات.
ففي اللاذقية، تناقلت وسائل إعلام أنباء عن انسحاب لمجموعات “هيئة تحرير الشام” وانتشار ما يُسمّى “جهاز الأمن العام” الذي تقوم حكومة هيئة تحرير الشام بتشكيله، وفي وقتٍ أثارت فيه هذه الأنباء ضجّة كبيرة على مواقع التواصل الافتراضي، وسط تكهنات حول سبب انسحاب تلك المجموعات بالتوازي مع زيارة وزير الخارجية السعوديّ إلى دمشق.
وهو ما حمل مؤشرات على أنَّ الجماعات غير السوريّة، والتي ارتكب عناصرها انتهاكات، هي التي خرجت من المدينة، ومن بينها كتيبة أوزبكية كانت تتمركز في مقر اللواء 107 في بلدة بزاما، وهو ما أكده المرصد السوريّ لحقوق الإنسان مبيناً أنّ هناك انتشارٌ لقوى أمنيّة مهمتها متابعة الأمن الداخليّ في المدن التي انسحبت منها المجموعات المرتزقة.
أحد الأهداف السعودية من إلقاء ثقلها على الساحة السوريّة هي موازنة الدور المهم الذي تلعبه تركيا في سوريا الجديدة، لأنّ الرياض تريد أيضاً ضمان عدم انزلاق دمشق مرةً أخرى إلى دوامةِ العنف والاضطرابات الاجتماعيّة والاقتتال الطائفيّ أو العرقيّ الذي تعمل تركيا على تغذيته، ما يهدد بصورةٍ طبيعيّة الاستقرار الإقليميّ الذي تسعى دول المنطقة وعلى رأسها السعودية على تثبيته.
كما أنّ هذه المساعي هدفها إبعاد سوريا عن نزعات التطرف، وإعادتها إلى الحاضنة العربيّة، لأنّ الممارسات والتجاوزات على الأرض من قبل المجموعات المتطرفة كانت مبعث قلق لحكومات المنطقة التي تريد أن يكون لها مقعد على طاولة رسم معالم سوريا الجديدة.
وفي منحى آخر، لن تدع السعودية، ومعها دول الخليج، تركيا تتحرّك منفردةً في المجال الاقتصاديّ السوريّ بهوامش واسعة، وأبدت دول الخليج استعدادها لتقديم سلة مساعدات اقتصاديّة قد تساهم في إنعاش الاقتصاد السوريّ، لتقابل الاندفاعة التركيّة في هذا المجال إذ أرسلت أنقرة مسؤولين ورجال أعمال إلى دمشق وأظهرت الاهتمام بالمساعدة بإعادة بناء قطاع الطاقة في البلاد.
الرياض وأثرها على الساحة السوريّة
استضافتِ الرياض اجتماعاً وزاريّاً موسّعاً في 12/1/2025، بحضور وزراء خارجية عرب وأوروبيين لمناقشة الوضع في سوريا، ولم يكن اختيار الرياض لتحتضن أول اجتماعٍ دوليّ من نوعه بين قادة من الشرق الأوسط وأوروبا لبحث مستقبل سوريا بعد سقوط بشار الأسد، محض صدفة، بل تأكيد لرغبة الرياض بلعب دور رئيسيّ في سوريا، وبحث المجتمعون دعمهم لعملية انتقاليّة سياسيّة سوريّة تتمثل فيها القوى السياسيّة والاجتماعيّة السوريّة تحفظ حقوق جميع السوريين وبمشاركة مختلف مكونات الشعب السوريّ، وانقسمت اجتماعات الرياض إلى قسمين: الأول شارك فيه الوزراء العرب، والآخر ضمّ مسؤولين غربيين.
ودعتِ الرياض بشكلٍ مكثف إلى رفع العقوبات عن سوريا مع الترحيب بأهمية الخطوات الإيجابيّة التي قامت بها الإدارة السوريّة الجديدة في مجال الحفاظ على مؤسسات الدولة وإقرارها بالالتزام بمكافحة الإرهاب، والبدء بعملية سياسيّة تضمُّ مختلف المكونات السوريّة.
وجاء اجتماع الرياض استكمالاً لمؤتمر العقبة لعدد من وزراء الخارجية العرب، والذي عُقد في 14/12/2024، لبحث سبل دعم عملية سياسيّة جامعة بقيادة سوريّة “لإنجاز عملية انتقالية وفق قرار مجلس الأمن 2254، تلبي طموحات الشعب السوريّ”.
شكّلت هذه المؤشرات نقطة تحوّل ليكون المسعى السعوديّ حجر زاوية في أيّ عملية بناء لسوريا الجديدة وتساهم فعليّاً في أي عملية تعافي لسوريا بعد سقوط الأسد عبر سياسيّة الاحتواء التي فشلت في تطبيقها مع النظام السابق لكنها تحاول تطبيقها اليوم مع دمشق لئلا تترك الساحة للنفوذ والسطوة التركيّة.
ويرى مراقبون أنَّ الرياض ترغب بأخذ زمام المبادرة في تنسيق الجهود الإقليميّة لدعم تعافي سوريا وانتقالها من دولةٍ منكوبة جراء صراعٍ مسلحٍ استمر نحو 14 عاماً، إلى مرحلةٍ جديدة خصوصاً مع تنامي الشعور السعودي بالارتياح لسقوط الأسد، لأنّ الأمرَ يحمل في طياته “نكسة لإيران وحلفائها”.
وكان إبعاد الأسد عن العباءة الإيرانيّة أحد أسباب السعودية في السعي نحو إعادة العلاقات مع الأسد عام 2023 في إطار سياسة الاحتواء إذ رغبت الرياض حينها منح الأسد بديلاً عربيّاً، مقابل تقليل اعتماده على طهران، لكن الأسد لم يُفلح في استثمار الفرصة العربيّة، وبقي مرتمياً في الحضن الإيرانيّ حتى سقوطه.
دعم موقف قسد سيكون مفيداً عربيّاً
قد لا يكونُ مسارُ الدورِ العربيّ في سوريا سهلاً، كون دولة الاحتلال التركيّ لديها مشاريع توسعيّة، وقد استغلت طيلة سنوات عامل القرب الجغرافيّ لتحقيق أهدافها، وعملت على عرقلة أيّ مسعى للحلّ السياسيّ في البلاد، بالتوازي مع مواصلة الهجوم على مشروع الإدارة الذاتيّة وقوات سوريا الديمقراطيّة التي كرست وجودها لمحاربة الإرهاب وحمايةِ الأراضي السوريّة من أي مشروعٍ احتلاليّ تعمل أنقرة على ترسيخه.
يؤكد متابعون أنّ لقوات سوريا الديمقراطية الدور البارز في إفشال مخططات تركيا في إحياء عثمانيتها البائدة، وهذا المشروع يُهدد بشكلٍ مباشر الرؤية العربيّة في دعم سوريا وإنعاشها اقتصاديّاً واجتماعيّاً وسياسيّاً، ولذلك سيكون التنافس محموماً بين الرياض وأنقرة، ما يستوجب تضافر الجهود بين الرياض وقسد لمنع أيّ مشروع احتلاليّ أو هيمنة تركيّة على الساحة السوريّة.
كما أنّ مرتزقة “داعش” الذين انتعشوا في الآونة الأخيرة مستغلين حالة الفوضى التي تسببت بها دولة الاحتلال التركيّ على الساحة السوريّة، ليعيد المرتزقة لملمة أنفسهم وتنظيم صفوفهم في محاولة للانبعاث، وهذا ما يناقض رؤية دول المنطقة والغرب على حدٍّ سواء في دعمِ استقرارِ المنطقةِ وبخاصةٍ سوريا.
ويأتي التنافس السعوديّ ــ التركيّ في ظلِّ عدم استقرار قد يتفاقم بحال أخذ السباق أشكالاً عنفيّة خصوصاً وأنّ دولاً بالمنطقة بسوريا تعملُ وفق مصالحها، على حساب زيادة حالة عدم الاستقرار وتشتيت انتباه المجتمع الدوليّ بشأن الانتقال المسؤول أو الحاجات السوريّة.
وبما أنَّ مسار التنافس بين الرياض وأنقرة قد لا يكون عنفيّاً، بل سياسيّاً، فيجب على دولِ الخليج تكثيف جهودها للضغط على أنقرة بما ينعكس إيجاباً على الساحةِ السوريّة والسوريين، فالسعودية بدأت سباق العودةِ إلى الملعب السوريّ بقوّةٍ وبخطواتٍ فعّالةٍ.
وفيما كان وزير الخارجية التركيّ هاكان فيدان أول زائري دمشق الدبلوماسيين، فإنَّ وزير الخارجية السوريّ الجديد أسعد الشيباني اختار السعودية وجهة أولى رحلاته الخارجيّة، وتحدث عن تجربة محمد بن سلمان 2030 كمصدرٍ إلهام لحكومته.
في المحصلة، فإنَّ التنافسَ لا يغيب عن الدول الإقليميّة وينطلق هذا من مبدأ سباق النفوذ في علم السياسة والعلاقات الدوليّة. ومن المُرتقب أن تشهد سوريا تنافساً عربيّاً – تركيّاً كون سوريا دولة غنية بالثروات الطبيعيّة وموقعها الجغرافيّ الجيواسراتيجيّ، ومشاريع إعادة الإعمار فيها كثيرة، فتركيا تبحث عما يمكن أن تستفيد منه، ويتوافق مع مشاريعها العثمانيّة بينما تهدفُ الدول العربيّة إلى عدم خلق حالة توتر لأمنها الإقليميّ من بوابتها الشماليّة سوريا وخط الدفاع الأول عن هذا الأمن الإقليميّ بشكلٍ أو بآخر قوات سوريا الديمقراطيّة بحسب مراقبين.