محمد عيسى
في خطابه الأول بعد عودته إلى البيت الأبيض، كشف دونالد ترامب عن رؤيته الطموحة لـ”عصر ذهبيّ” جديد، حيث تعهد بإعادة صياغة السياسة الداخليّة والخارجيّة للولايات المتحدة. وهي رؤيةٌ أثارت الجدل بين أنصاره وخصومه، خاصة في ظلّ تعهده بإعادة بناء الهيمنة الأمريكيّة عالميّاً، في وقتٍ يزداد فيه تعقيد المشهد السياسيّ في الشرق الأوسط، خصوصاً مع المتغيرات في الشرق الأوسط ودور واشنطن في سوريا وبروز القضية الكرديّة وهي من القضايا العالقة.
عصر ذهبيّ أم استمرارية بنهج مختلف؟
وسط أجواء سياسيّة داخليّة مشحونة وأزمات خارجيّة متراكمة، اعتلى الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب المنصة ليلقي خطابه الأول بعد عودته إلى البيت الأبيض في 20 كانون الثاني الماضي. حمل الخطاب طابعاً مختلفاً عن خطاباته السابقة، إذ استعرض من خلاله خطة شاملة تهدف إلى استعادة الهيمنة الأمريكيّة داخليّاً وخارجيّاً. لكن هذه الرؤية الطموحة أثارت العديد من التساؤلات حول مدى واقعية تنفيذها، خاصة في ظل الملفات المعقدة التي تواجهها إدارته، من الاقتصاد الأمريكيّ المتعثر إلى قضايا الشرق الأوسط، وعلى رأسها مستقبل العلاقة مع الكرد.
ترامب، الذي عُرف دائماً بخطابه الشعبويّ وأسلوبه الاستفزازيّ، اختار هذه المرة أن يظهر قائداً يحمل رؤية استراتيجيّة طويلة المدى. وتحدث عن “العصر الذهبيّ” الذي يطمح لتحقيقه، رافعاً شعار “أمريكا أولاً” ومستخدماً لغة تجمع بين التفاؤل والتحذير. فبينما أكد على قدرة أمريكا على قيادة العالم مجدداً، لم يخفِ قلقه من التحدياتِ التي تواجه الولايات المتحدة، سواء داخليّاً أو خارجيّاً.
طرح ترامب جملة عناوين هي في حقيقتها مشاريع كبيرة، أحد عناوينها صناعة السلام ووقف الحروب ومن بينها الحرب في أوكرانيا والشرق الأوسط، وطرح فكرة استخدام “القوة الاقتصاديّة” لجعل كندا تنضم إلى الاتحاد الأمريكيّ لتصبح الولاية رقم 51، وأعلن نيته تغيير اسم خليج المكسيك إلى خليج أمريكا، إضافة إلى ضم جزيرة غرينلاند. وذلك في سياق إنشاء منطقة أمريكيّة كبرى، وضمان توسيع قاعدة الموارد وأسواق مبيعات منتجات الولايات المتحدة، بما في ذلك الوصول إلى طرق القطب الشماليّ.
استعادة الاقتصاد والقيم التقليديّة
منذ بداية خطابه، ركّز ترامب على ضرورة إعادة بناء الاقتصاد الأمريكيّ الذي وصفه بـ”العمود الفقريّ للأمة”. أشار إلى أن السنوات الماضية شهدت تراجعاً في الإنتاج الصناعي، مع انتقال العديد من المصانع إلى دول أخرى، ما تسبب في فقدان ملايين الوظائف. تعهد ترامب بإعادة هذه الصناعات إلى الداخل الأمريكيّ، مؤكداً أن بلاده لن تكون رهينة للمنتجات الأجنبية بعد الآن.
أبرز ما لفت الانتباه في خطابه هو وعده بخفض تكاليف الطاقة من خلال زيادة إنتاج النفط والغاز المحليّ، وهو ما اعتبره ضرورياً لتحفيز النمو الاقتصاديّ وتقليل التضخم. ورغم الانتقادات التي وجهها البعض لسياساته البيئيّة خلال ولايته الأولى، إلا أنه أصر على أن مستقبل الطاقة يجب أن يخدم الاقتصاد الأمريكيّ أولاً.
على الصعيد الاجتماعيّ، تبنّى ترامب خطاباً تقليديّاً محافظاً، منتقداً ما وصفه بـ”السياسات التقدميّة المدمرة”. وركز على الدفاع عن القيم التقليديّة، مؤكّداً وجود جنسين فقط: ذكر وأنثى. وأثار هذا التصريح جدلاً واسعاً في الأوساط الليبراليّة، التي اعتبرته تراجعاً عن التقدم الذي حققته حركات الدفاع عن حقوق الأقليات الجنسيّة.
لكن ما يميّز هذا الخطاب عن غيره هو تركيزه على “إصلاح الحكومة”. إذ أعلن ترامب عن خطط لإنشاء وزارة جديدة تهدف إلى تحسين كفاءة المؤسسات الحكوميّة، مشيراً إلى أنّ الإدارة الأمريكيّة بحاجة إلى تحديثٍ شاملٍ لمواجهة تحديات القرن الحادي والعشرين.
منع الهجرة وضبط الحدود
استحوذ ملف الهجرة على قسمٍ كبيرٍ من خطابِ دونالد ترامب، حيث أعلن حالة الطوارئ الوطنيّة على الحدود الجنوبيّة مع المكسيك، وهي خطوة تحمل دلالات أمنيّة واضحة وفق رؤيته للحفاظ على السيادة الأمريكيّة. وفيما انتقد ترامب، بشدة سياسات الإدارات السابقة في معالجة قضية الهجرة، فقد شدد على ضرورةِ وقف تدفق المهاجرين غير الشرعيين، مبرراً ذلك بالحفاظ على الأمن القوميّ الأمريكيّ ومنع تهريب المخدرات عبر الحدود.
هذه الخطوة التي وصفتها الإدارة بأنّها “ضرورية”، تهدف إلى عكس المسار الحالي للهجرة غير الشرعيّة التي أصبحت مصدرَ قلقٍ داخليّ متزايد. ووفقاً للرؤية التي طرحها ترامب، فإنّه يعتزم مواجهة الظاهرة بحزمٍ، من خلال طرد الملايين من المهاجرين غير الشرعيين، ما يعكس صرامة تعامله مع القضية. وفي سياق هذه الحملة، أشار ترامب أيضاً إلى عزمه تصنيف عصابات المخدرات منظمات إرهابيّة أجنبية، وهي خطوة لها أبعاد سياسيّة واقتصاديّة وأمنيّة متعددة، قد تثير جدلاً داخليّاً وخارجيّاً بسبب تبعاتها القانونيّة والإنسانيّة.
ترامب، الذي يضع القضية الاقتصاديّة على رأس أولوياته، يعتبر أنَّ السيطرة على الحدود الجنوبيّة للولايات المتحدة جزء لا يتجزأ من خطته لإعادة ضبط الاقتصاد الأمريكيّ. فالهجرة غير القانونيّة، إلى جانب تدفق المخدرات، تسببت في إضعاف سوق العمل الأمريكيّ وزيادة معدلات الجريمة، وهو ما يدفعه إلى تبني سياسة صارمة بهدف حماية المواطنين الأمريكيين وتعزيز الاقتصاد الداخليّ.
في الوقت نفسه، يعكس خطاب ترامب طموحاً واضحاً لإعادة تشكيل النظام العالمي وفقاً لمصالح الولايات المتحدة. فهو لا يتردد في وصف نفسه بـ”صانع السلام”، في حين يبرز جانباً توسعياً في خطابه من خلال الحديث عن خطط طموحة لاستعادة قناة بنما التي قال عنها، إن الصين تديرها حالياً. ويعدُّ هذا جزءاً من استراتيجية تهدف إلى تقليص النفوذ الصيني في أمريكا اللاتينية والعالم، إلى جانب مواجهة التحديات الاقتصاديّة والعسكريّة، التي تفرضها روسيا والصين في مختلف المناطق.
السياسة الخارجيّة لترامب تأتي في إطار رؤية واسعة لإعادة تثبيت قوة الولايات المتحدة قوة عظمى متفردة في العالم، مستفيداً من التحالفات القديمة والجديدة لفرض الهيمنة الاقتصاديّة والعسكريّة. ما يترك للمنطقة بشكل عام والمتأثرين بالصراع الإقليمي سؤالاً حول مستقبل الدور الأمريكي، ومدى انسجامه مع المتغيرات الإقليمية والدوليّة التي تشهدها المنطقة.
الشرق الأوسط تحديات متجددة وفق رؤية مختلفة
حسب مراقبين ومحللين سياسيّين، يبدو أن سياسة دونالد ترامب تجاه الشرق الأوسط خلال ولايته الثانية ستشهد تغييرات جوهرية مقارنة بفترة ولايته الأولى، وذلك بسبب عوامل استراتيجية عدة باتت أكثر إلحاحاً، وخاصة بعد التغيرات الكبيرة التي شهدتها المنطقة، وعلى رأسها الحرب الإسرائيلية مع غزة ولبنان، التي أظهرت المستوى المتزايد من التهديدات في الصراع مع إيران والجماعات المدعومة من طهران. إضافة إلى زوال نظام الأسد في سوريا، الذي فتح المجال أمام فوضى جديدة، وأصبح يشكل تحدياً أمنياً مستمراً.
هذه التغيرات تشير إلى تحول في الأجندة الأمريكيّة تجاه الشرق الأوسط، حيث تتجه واشنطن إلى إعادة ترتيب أولوياتها بشكل جدي لمواجهة التحديات المتزايدة، وفي مقدمتها خطر خلايا مرتزقة “داعش” الإرهابية، التي لا تقتصر تهديداتها على حدود المنطقة فقط، بل تمتد إلى السلم والأمن الدوليّين. وعلى الرغم من أن القضاء على “داعش” كان محوراً رئيسياً في خطط الإدارة السابقة، إلا أن داعش لا يزال يمثل تحدياً مستمراً يتطلب موقفاً حازماً ومركّزاً؛ ما يدفع الولايات المتحدة إلى ضرورة تعزيز وجودها العسكريّ والدبلوماسي في المنطقة بشكل أكبر.
من جهة أخرى، يبقى أمن إسرائيل في صميم الاستراتيجية الأمريكيّة في المنطقة. فإسرائيل، شريك رئيسي للولايات المتحدة، تتعرض لضغوط من قوى إقليمية مثل إيران والميليشيات المسلحة المدعومة من طهران، وهو ما يحتم على واشنطن الحفاظ على استقرار المنطقة وتعزيز دور الحلفاء التقليديين، بما في ذلك الدول الخليجية. بناءً على ذلك، من المتوقع أن تواصل الولايات المتحدة دعم تل أبيب بشكل مباشر وغير مباشر، مع ضمان توازن القوى في الشرق الأوسط ومنع إيران من زيادة نفوذها بشكل أكبر.
ويبرز هنا الدور المحوري الذي يلعبه الكرد في هذه المعادلة، وخاصة قوات سوريا الديمقراطيّة، التي كانت في طليعة القوات التي واجهت “داعش” وهزمت المرتزقة في معاقله الأساسيّة. فقوات قسد، بجانب دورها المحوري في محاربة الإرهاب، تمثل عنصراً استراتيجياً في مواجهة النفوذ الإيراني والروسي في المنطقة، وتشكّل شريكاً موثوقاً للولايات المتحدة لتحقيق الاستقرار. ويرى المراقبون أن إدارة ترامب قد تكون أكثر دعماً للكرد هذه المرة، مع إدراكها أهمية هذا الحليف عنصر توازن قوي في الساحة السورية، حيث تسعى واشنطن إلى ضمان استمرار الجهود العسكريّة والسياسيّة التي تقوم بها القوات الكردية في محاربة بقايا التنظيمات الإرهابية وتأمين المناطق التي تكتسب أولوية استراتيجية للنفوذ الأمريكيّ.
ورداً على تقارير تحدثت عن نيته سحب القوات الأمريكيّة من سوريا؛ أكّد الرئيس الأمريكيّ دونالد ترامب للصحافيين الخميس 31/1/2025: “لم أقل إني سأسحب القوات الأميركية من سوريا ولا أعرف مصدر هذه التقارير”.
ويتوقع أن تتبنى إدارة ترامب مقاربة مختلفة تماماً عن الانسحاب التدريجيّ الذي شهدناه في ولايته السابقة. فبدلاً من الانسحاب، ستسعى واشنطن إلى تعزيز وجودها العسكريّ والدبلوماسي في المناطق التي تمثل نقاطاً استراتيجية في شمال وشرق سوريا. هذا التوجه الجديد يهدف إلى ضمان بقاء القوات الأمريكيّة على الأرض، مستمرة في دعم قوات سوريا الديمقراطية وتقديم التدريب والمشورة العسكريّة اللازمة لمواجهة مرتزقة “داعش”. وبالتالي، لن تكون سياسة ترامب في سوريا كسياسته خلال ولايته الأولى، بل ستكون أكثر حزماً وتواصلاً، بما يعكس استراتيجية أمريكيّة جديدة تعزز النفوذ العسكريّ والسياسيّ للولايات المتحدة في المنطقة.
الدور الخليجيّ وتوازن القوى الإقليميّ
لم يغفل ترامب أهمية دول الخليج في تحقيق أهداف السياسة الأمريكيّة، حيث أشار إلى دورِ السعودية والإمارات في دعم الاستقرار بالمنطقة، مؤكداً ضرورة تعزيز التعاون الأمني والاقتصاديّ بين واشنطن وحلفائها الخليجيين. فالدول الخليجيّة تمثل شريكاً استراتيجيّاً للولايات المتحدة في مواجهة التحديات الأمنيّة، سواءً كان ذلك من خلال محاربة الإرهاب أو التصدي للمحاولات الإيرانية لتعزيز نفوذها. كما تسهم هذه الدول في استقرار أسواق الطاقة العالميّة، وهو ما يعزز نفوذ واشنطن في المجال الاقتصاديّ والسياسيّ.
اختتم ترامب خطابه برسالة تفاؤل، مؤكداً أن “العصر الذهبيّ” لأمريكا قد بدأ. لكنه في الوقت نفسه أقر أن الطريق نحو تحقيق هذه الرؤية لن يكون سهلاً. فبين التحديات الداخليّة، مثل القضايا الاقتصاديّة ومعضلة الهجرة، والتحديات الخارجيّة، مثل الأزمات في الشرق الأوسط والصراع مع الصين وروسيا، يبقى السؤال مطروحاً: هل ستنجح إدارة ترامب الثانية في تحقيق وعودها؟ أم أنها ستواجه العقبات، التي أعاقت تقدمها في الماضي؟
مع عودة ترامب إلى البيت الأبيض، يجد العالم نفسه أمام مرحلة جديدة من السياسة الأمريكيّة قد تكون مليئة بالمفاجآت والتحولات. فإدارته، رغم طموحها الواضح، ستواجه العديد من الضغوط الداخليّة والخارجيّة التي قد تؤثر على قدرتها على الوفاء بتلك الوعود. ستتطلب المرحلة القادمة توازناً دقيقاً بين الطموحات السياسيّة والالتزامات الواقعية، وقد يكون اختباراً حقيقياً لقدرة ترامب على قيادة الولايات المتحدة في ظل هذه الظروف المتغيرة. لكن المؤكد هو أن خطاب ترامب، رغم طموحه الكبير، يضع أمريكا أمام اختبارٍ صعبٍ بين تحقيق الأحلام ومواجهة الواقع. فهل ستنجح الولايات المتحدة في ولاية ترامب بالخروج من أزمتها بفعاليّة، أم ستدخل في نفقِ التعقيدات، التي قد تعيدها إلى حالةِ من الجمود على الصعيدين الداخليّ والدوليّ؟