محمد عيسى
في وقتٍ يتعثّر فيه مسار الحل السياسيّ السوريّ، وتواجه البلادُ تحدياتٍ متعددةَ المستوياتِ عقبَ سقوط النظام، تولى “أحمد الشرع” رئاسة سوريا المؤقتةِ، في خطوةٍ أثارت تساؤلاتٍ جوهريّةً حول مستقبلِ البلاد، وفيما أكّدت قراراته الأخيرة التي شملت حلَّ المجموعات المسلحة، وإنهاء دور حزب البعث ووقفِ العملِ بالدستورِ، على أنّ النظامَ الجديدَ يسعى لتغييرٍ جذريّ، إلا أنّ تحدياتٍ برزت في بيئةٍ يُعاد فيها تدويرُ قياداتٍ مجموعات متورطةٍ بارتكابِ جرائم حرب بحق السوريّين.
مسار غامض وتناقضات المرحلة الانتقاليّة
تولى أحمد الشرع رئاسة سوريا المؤقتة في 30 كانون الثاني 2025 في لحظةٍ حاسمةٍ من تاريخ البلاد، وسط حالة من عدم الاستقرار السياسيّ والأمنيّ الذي تفاقم بعد رحيل بشار الأسد، هذه المرحلة التي كان من المفترض أن تُؤسس لعمليةٍ سياسيّةٍ جديدةٍ تستند إلى المصالحةِ الوطنيّةِ وإعادةِ بناء الدولة، سرعان ما أظهرت تناقضاتها الجوهريّة مع الخطاب الذي روّجت له الأطرافُ الداعمة لهذا التغيير، فبدلاً من وضع أسس جديدة لإدارة البلاد، بدأ المشهد السياسيّ يتشكّلُ وفق حساباتِ القوى الإقليميّة والدوليّة، مع إعادة تدوير شخصيات لعبت أدواراً خطيرةً في تأجيج الصراع، ما أفرغ مفهوم “المرحلة الانتقاليّة” من أيّ مضمون حقيقيّ.
إحدى أبرز الخطوات التي اتخذها الشرع تمثلت في الإعلان عن حلِّ المجموعات المسلحة التي ارتبطت بالاحتلال التركيّ وكانت مسؤولة عن انتهاكات جسيمة بحق المدنيين، لكن المفارقة الكبرى تمثلت في أن العديد من قادة هذه المجموعات وجدوا طريقهم إلى المناصب السياسيّة والعسكريّة ضمن التشكيل الجديد، مما أثار تساؤلات جدية حول طبيعة هذا التحول ومدى مصداقيته، إذ بدت هذه الخطوة وكأنها محاولة لشرعنة هذه الجماعات بدلاً من محاسبتها، خاصةً إن العديد من رموزها مصنفين على قوائم الإرهاب الدوليّة.
من بين الأسماء التي أثارت الجدل، يبرز المدعو “أحمد إحسان فياض الهايس”، المعروف بـ”أبو حاتم شقرا”، قائد مرتزقة “أحرار الشرقية”. هذا الرجل الذي فرضت عليه عقوبات أمريكيّة بسبب تورطه في جرائم حرب، أبرزها عمليات قتل وتهجير طالت العديد من المدنيين، أصبح فجأة جزءاً من المشهدِ السياسيّ الجديد، والأكثر خطورة إن “أبو حاتم شقرا” هو أحد المتورطين الرئيسيين في اغتيالِ الأمين العام لحزب سوريا المستقبل؛ السياسيّة الكرديّة هفرين خلف عام 2019، وهو الاغتيال الذي شكّل آنذاك جريمة أثارت إدانات دوليّة واسعة. ومع ذلك، فإنّ الشرع لم يكتفِ بعدم محاسبة هذا الشخص، بل سمح له بحضور ما يسمّى بـ”مؤتمر النصر” في دمشق، في مشهدٍ يعكس طبيعةَ التوازنات التي تفرضها القوى الإقليميّة الداعمة لهذا التغيير، وعلى رأسها المحتل التركي.
قرارُ إشراك هذه الشخصيات في العمليّة السياسيّة لم يمر دون اعتراضاتٍ، حيث قُوبل بموجةِ استياءٍ واسعةٍ، سواء على المستوى المحليّ أو الدوليّ، فعائلة الشهيدة هفرين خلف، التي لم تتوقف عن المطالبةِ بمحاسبة المسؤولين عن اغتيالها، واعتبرت حضور قاتلها إلى مؤتمر في دمشق إهانةً لكلِّ من ضحّوا من أجل مستقبل سوريا. كما إنّ قوىً سياسيّةً ومجتمعيّة عدة اعتبرت أنّ هذا الإجراء يكرّس سياسةَ الإفلاتِ من العقاب، ويؤكد أنَّ المرحلةَ الجديدة ليست إلا إعادة تدوير للوجوه التي لعبت دوراً في تعميقِ المأساةِ السوريّةِ.
وفيما تروّج الحكومة الجديدة لنفسها على أنّها جاءت لإنهاء الفوضى المسلحة في سوريا، فإنَّ الواقعَ على الأرض يقول عكس ذلك. إذ لا تزال العمليات العدوانية مستمرةً في عدة مناطق، حيث تواصل المجموعات المرتزقة التي كانت تنشط تحت مظلة الاحتلال التركيّ تنفيذ عملياتها، خاصةً في سد تشرين، جسر قره قوزاق، ومنبج، ورغم إنّ هذه المجموعات أعلنت رسميّاً حلَّ نفسها ضمن ما سُمّي بإعادة هيكلة الجيشِ السوريّ، إلا أنّ تحركاتها تؤكد أنّها لا تزال تحتفظ بقرارها المستقل، وتنفذ أجندات الاحتلالِ التركيّ الذي يواصل مساعيه لترسيخ نفوذه في الشمال السوريّ.
هذه المجموعات، التي ارتكبت انتهاكاتٍ واسعةً بحق السوريّين خلال السنوات الماضية، لم تتخلَّ عن طبيعتها كأدواتٍ لتنفيذ مشاريع الاحتلال التركيّ، بل تستغلُ الغطاءَ السياسيّ الجديد لمواصلةِ أعمالها العدائيّة على مناطق شمال وشرق سوريا. ويبدو أنّ عملياتها العدوانية المستمرة تشير إلى أنَّ المرحلة الانتقاليّة ليست سوى واجهة جديدة لاستمرار الصراع، حيث إنَّ القتال لم يتوقف، بل تحوّل إلى أشكالٍ مختلفةٍ في ظلِّ استمرار الأهداف التوسعيّة للاحتلال التركيّ في سوريا.
إنَّ هذه التناقضاتِ في القرارات والإجراءات تؤكد أنَّ الوضعَ في سوريا لم يتغيّر جوهريّاً، بل أصبح أكثر تعقيداً مع إعادة إدماج المجموعات التي تورطت في سفك دماء السوريّين ضمن الهياكل الرسميّة، وبينما تحاول الحكومة الجديدة تقديم نفسها كبديلٍ عن النظامِ السابق، فإنَّ استمرار النفوذ التركيّ وهيمنة قادة المجموعات المرتزقة المتورطين في الجرائم والانتهاكات المختلفة لحقوق الإنسان، على المشهدِ السياسيّ يثير شكوكاً حقيقيّة حول طبيعة التغيير المزعوم ومدى الجديّة في العمل على تحقيق تطلعات السوريّين نحو العدالة والاستقرار.
قسد بين شرعيّة الدفاعِ ومخاطر التهميش
منذ اندلاع الأزمة السوريّة، برزت قوات سوريا الديمقراطيّة كقوةٍ رئيسيّةٍ تحمي استقرارَ المنطقةِ وتتصدّى للمخاطرِ التي تهددُ سلامةَ الأراضي السوريّة ووحدتها الجغرافيّة. فمنذ تأسيسها في عام 2015، خاضت معارك شرسةً ضد التنظيمات الإرهابيّة وعلى رأسها مرتزقة “داعش”، وأفشلت مشاريع الاحتلال التركيّ الرامية إلى توسيع نفوذه عبر وكلائه من المجموعات المرتزقة، ولم تكن مقاومة قسد مجرد دفاع عسكري، بل كانت مشروعاً للحفاظِ على وحدةِ الأراضي السوريّة من التقسيم، وضمانِ الأمنِ للسكانِ من مختلف الشعوب، وسط فوضى الحربِ والصراعات الإقليميّة التي مزّقتِ البلادَ.
وخلال السنوات الماضية، تمكنت قسد من تحرير مساحات واسعة من سيطرة مرتزقة “داعش”، وكان لها الفضل في إنهاء الخطر الإرهابيّ الذي هدد ليس فقط سوريا، بل العالم بأسره. كما وفرت البيئة لتأسيس نموذجٍ إداريّ أتاح للمكونات المحليّة فرصةَ المشاركة في إدارة شؤونها، بعيداً عن الإقصاء الذي مارسته الأنظمة المركزيّة والمجموعات المتطرفة. ومع ذلك، تجد قسد نفسها اليوم أمام تحدٍّ جديدٍ، ليس فقط من التنظيمات الإرهابيّة التي هزمتها في الميدان، بل من المشهدِ السياسيّ الجديد الذي بدأ يتشكل بعد رحيل بشار الأسد وتولي أحمد الشرع رئاسة سوريا المؤقتة.
القرارات التي اتخذتها الحكومة الجديدة، خاصةً فيما يتعلق بإدماج المجموعات المسلحة التي ارتكبت انتهاكاتٍ جسيمةً بحق السوريّين ضمن الجيش السوريّ الجديد، تثير تساؤلات حول طبيعةِ المرحلةِ المقبلة، فهذه المجموعات، التي لطالما كانت أداةً في يد الاحتلال التركيّ، لم تتخلَّ عن أجنداتها، بل باتت جزءاً من المشهد الرسميّ كما ذكرنا آنفاً، ما يعني أنَّ سياسات تركيا التوسعيّة باتت تتخذ أشكالاً أكثر تعقيداً، حيث يتم تغليفها بغطاء سياسيّ وعسكريّ شرعيّ في نظر بعض القوى الإقليميّة والدوليّة.
هذا الواقع يفرض تحدياً كبيراً على قوات سوريا الديمقراطيّة، التي كانت ولا تزال الجهةَ الوحيدةَ التي تواجه هذه التهديدات بشكلٍ مباشر، فبقاء قيادات هذه المجموعات المسلحة في المعادلةِ يعني استمرار محاولاتِ التوسّع التركيّ، حيث تستمر الاشتباكاتُ على عدة جبهات، أبرزها في سد تشرين وريف منبج، رغم الحديثِ عن مرحلةٍ انتقاليّة تهدفُ إلى تحقيق الاستقرار.
إنَّ استمرار القتال في هذه المناطق يؤكد أنَّ قرار “حلّ المجموعات” لم يكن سوى إجراءٍ شكليّ، وأنّ هذه الجماعاتِ لا تزال تعمل وفق مصالحها السابقة، ما يجعل الحلولَ السياسيّة المطروحة بعيدةً عن أيّ مسار واقعيّ يحقق الأمن والاستقرار الفعليّ.
وبينما تحاول الحكومة الجديدة تقديم نفسها كسلطةٍ جامعةٍ، فإنَّ تغاضيها عن دورِ قوات سوريا الديمقراطيّة في حمايةِ البلادِ من الإرهابِ، وإشراك شخصيات متورطة في جرائم حربٍ في إدارةِ المرحلةِ المقبلةِ، يُفقدها الكثير من المصداقيّةِ، فلا يمكن لأيّ مشروع سياسيّ أن ينجحَ دون ضمانِ العدالة، ومحاسبة المسؤولين عن المجازر والانتهاكاتِ، لا سيما الشخصيات التي قادت عمليات التهجير والقتل، كما هو الحال مع مرتزقة “أحرار الشرقيّة” المتورطين في اغتيال هفرين خلف.
إنَّ وضع قوات سوريا الديمقراطيّة اليوم ليس مجردَ مسألةٍ عسكريّةٍ تتعلقُ بجبهاتِ القتالِ، بل هو اختبارٌ لمستقبلِ سوريا بأكملها، فإذا كان المشروع الجديد يستندُ إلى المصالحة الوطنيّة الحقيقيّة، فلا بدَّ أن يُبنى على الاعترافِ بدورِ قسد في الدفاعِ عن وحدةِ سوريا، لا أن يتم تجاهلها لصالح القوى التي كانت مسؤولةً عن تأجيج الصراعِ، وما لم يتم تصحيحُ هذا المسار، فإنَّ الحديثَ عن مرحلةٍ انتقاليّةٍ ناجحة لن يكون سوى شعارٍ سياسيّ يخفي وراءه استمرار الفوضى والصراعات التي عانى منها السوريّون لسنواتٍ طويلةٍ.
الإدارة الذاتية موقف حاسم
الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا، التي تمثّل نموذجاً للديمقراطيّة المحلية والشمولية، عبّرت أيضاً عن رفضها التام لحضور قادة المجموعات المرتزقة الموالية للاحتلال التركيّ في “مؤتمر النصر”، مؤكدةً على أن أي عملية سياسيّة لا تشمل كافة الشعوب السوريّة وتستثني الكرد والشعوب الأخرى لن تكون عملية شاملة قادرة على إرساء الاستقرار.
إلهام أحمد، الرئيسة المشتركة لدائرة العلاقات الخارجية في الإدارة الذاتية، أكدت في تصريحات لها أن العمليات العدوانية التي تواصلها الدولة التركيّة في شمال وشرق سوريا، بما في ذلك الهجمات على سد تشرين وكوباني، لا تمثل تهديداً للمنطقة فقط، بل هي جزء من سياسة تركية تهدف للسيطرة على الجغرافيا السوريّة بشكلٍ كامل، وتستمر الإدارة الذاتية في التأكيد على أن الحل الحقيقيّ في سوريا هو في الحوار الوطنيّ الشامل، الذي يشمل جميع الأطراف السوريّة دون استثناء، ويضمن مشاركة كافة الشعوب في بناء سوريا ديمقراطيّة، لا مركزية، تضم الجميع.
في ظل هذه التحديات والتطورات المتسارعة، تظل سوريا على مفترق طرق. وعلى الرغم من التصريحات الرسمية التي تدعو إلى السلام والمصالحة، فإن الواقع على الأرض يشير إلى أن الطريق إلى الحل السياسيّ طويل، وغير مُعبّد، فالمشاركة الفعلية للمجموعات المتورطة في جرائم قتل السوريّين، مثل “أحرار الشرقية” وغيرها، في العملية السياسيّة، قد تزعزع الثقة في أي محاولة لتحقيق الاستقرار، وفي هذه اللحظة الحاسمة، تبقى قوات سوريا الديمقراطيّة هي الحامي الوحيد للسيادة السوريّة، فيما تتواصل محاولات الاحتلال التركيّ لاختراق هذه السيادة عبر تحريك المرتزقة والمليشيات.