عبدالرحمن ربوع
منذ سقوط نظام الأسد حتى اليوم وربما لفترة طويلة قادمة، تتواصل الحوارات والمناقشات بين كل القوى السياسية السورية والنشطاء السياسيين حول موضوع الهوية السوريّة التي يُعاد اليوم تعريفها وتوصيفها عقب الانتصار المدوّي للثورة الشعبية التي اندلعت في آذار 2011 وانتهت في الثامن من كانون الأول 2024.
لقد استعاد السوريون الثقة بأنفسهم وبقدرتهم على تقرير مصيرهم وتأسيس دولتهم. كما استعادوا ثقتهم أن يكون لكلمتهم وقرارهم الأثر الكافي لتحديث دولتهم وتحديث مؤسساتها وفق الأطر الأنضج سياسيًا ودستوريًا وقانونيًا، بما يحقق آمال شريحة عريضة من السوريين كانت مغيّبة بفعل سياسات الاحتكار والإقصاء والاستبداد.
اليوم السوريون أحرار بالقدر الكافي ليرعوا حواراتهم ومناقشاتهم، وتقرير مصيرهم، وإن كانت سوريا لم تصبح حرة بالقدر الكافي بعد، بحكم استمرار التدخّلات الأجنبية، وانصياع إدارة هيئة تحرير الشام في دمشق لهذه التدخلات، التي هي بلا شك ليست لصالح البلد وشعبها، بقدر ما هي لصالح هؤلاء المتدخلين، والذين هم في جزء كبير منهم أعداء للشعب السوري ولسوريا.
ومع نهاية استئثار حزب البعث العربي الاشتراكي بقيادة الدولة والمجتمع، وانتهاء عهد سيطرة “الجيش العربي السوري”، وأجهزة الأمن والمخابرات، وأمراء الحرب على مفاصل الدولة.. وبالتزامن مع وصول مجموعة جديدة ومختلفة كليًا عمن سبقتها إلى سدة القيادة والتحكم والسيطرة في دمشق.. تثور تساؤلات عديدة وعميقة عن الهوية السوريّة باعتبارها الأساس الذي ستُبنى عليه مفاهيم المواطنة والتعايش وفق منطلقات تآخي الشعوب السوريّة وتجاورها الممتد لمئات وآلاف السنين، ووفق آليات الحوار والاعتراف والاحترام التي ستسود الدولة المعاد بناؤها والتي سيتم النص عليها سواء في العقد الاجتماعي الجديد المزمع إنشاؤه، أو الدستور المستقبلي المفترض الشروع قريبًا بصياغته.
بطبيعة الحال لن يُعيد السوريون اختراع العجلة، ولن يخلقوا دولتهم الجديدة من العدم، أو عن غير سابق تجربة أو مثال.. لكن حتى الآن، وبعد مرور سبعة أسابيع على نهاية نظام الأسد وبداية مرحلة انتقالية؛ لا تزال الصورة مبهمة والرؤية غائمة والمشهد ضبابيًا، ولم تستطع الإدارة الجديدة تطمين الشعب السوري مع تعيين أحمد الشرع نفسه رئيسًا مؤقتًا للبلاد، وحاكمًا مطلقًا بيده كل الصلاحيات الرئاسية والتشريعية والتنفيذية.
لقد أشارت الأسابيع السبعة الفائتة إلى أن هناك شرخًا عميقًا، وبونًا شاسعًا بين الإدارة الجديدة وكل ما هو قانوني أو دستوري، وإن البلد بحاجة لوقت طويل قبل أن تتضح الرؤى وتنضج الاتفاقات بين المجموعات العسكرية والسياسية. وقبل أن تثمر الحوارات الوطنية عن تعريفات وجودية وأسس دستورية وما فوق دستورية، ومع هذه السرعة البطيئة جدًا في تنفيذ الاستحقاقات المرحلية، تصبح المهلة التي اقترحها أحمد الشرع، وهي أربع سنوات، غير كافية لاستكمال المرحلة الانتقالية، والشروع بعملية دستورية توافقية ديمقراطية، تبدأ بالاستفتاء على دستور وتنظيم انتخابات نيابية ورئاسية حرة مباشرة بإشراف دولي.
كما لا تبدو المقترحات والنصائح والضغوط الدولية قادرة على إقناع الإدارة الجديدة بالشكل الكافي، وهنا علينا ملاحظة أن فترة الستة أشهر أو السنة من الاستثناء من العقوبات الاقتصادية الأمريكية والأوروبية هي فترة قصيرة، وعلى الإدارة الجديدة مسابقة الزمن لتحقيق الحد الأدنى من السلوك المقبول شعبيًا ودوليًا، داخليًا وخارجيًا، وفي مقدمة ذلك توحيد السوريين، وإرساء السلم الأهلي، وتحقيق المصالحة الوطنية، وإثبات الفعالية في مكافحة الإرهاب، ووقف مظاهر التطرف، وإيصال الخدمات الأساسية، وإعادة النظر في العلاقات والاتفاقات مع إيران وروسيا، أيضًا كف يد تركيا عن استهداف المدنيين شمال وشرق سوريا، وإنهاء التواجد العسكري التركي والإسرائيلي على الأرض السوريّة، بالإضافة إلى بحث الخروج الأمريكي والاتفاق على جدولته.
على الإدارة الجديدة اليوم، وأكثر من أي وقتٍ مضى، الشروع في مؤتمر الحوار الوطني، فهو مؤتمر سيمتد إلى أشهر طويلة، ومن غير الممكن إلغاؤه أو حتى تأخيره أو إرجاؤه، ففي هذا المؤتمر سيتم تحديد الهوية السوريّة التي شوّهها حكم البعث/الأسد، كما شوهها الحكم البوليسي العسكري المافيوي خلال الأربع والخمسين سنة الأخيرة، كما مزقتها سنوات الحرب الأخيرة، وأبعدتها عن جوهرها الذي نشأت عليه قبل مئة عام، حين تأسست الدولة السوريّة عقب الثورة على الدولة العثمانية.
فحين نعرف ونحدد ماهيّة الهويّة السوريّة، وهوية الدولة السوريّة، ونقترع عليها بطريقة حرة وديمقراطية؛ ستكون كل مشاكلنا اللاحقة قابلة للحل، وسيكون كل ما يبنى عليها قد بُني على أساس وطني متين مقبول من الأكثرية، لنكتسب نحن أبناء هذا الجيل الذي شهد التغيير وشارك فيه سمة “الآباء المؤسسين لسوريا”. سوريا التي ينبغي أن تقوم وتستمر لعشرات وربما مئات السنين القادمة.