محمد عيسى
تواجه سوريا تحديات اقتصادية كارثية بفعل سنوات الحرب المستمرة والعقوبات القاسية، مما يجعل طريق إعادة الإعمار مليئاً بالمصاعب، فالعقوبات الدوليّة، وعلى رأسها قانون قيصر، تُعمّق الأزمات المعيشية وتفاقم الأوضاع الاقتصادية، ما يُضعِف أي أمل في التعافي، في الوقت ذاته، تقدّم الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا نموذجاً للصمود الاقتصادي بالرغم من الضغوطات السياسة والأمنية والاقتصادية.
بينما تستعد سوريا لمرحلة جديدة بعد سنوات من النزاع، لا تزال البلاد تواجه تحديات اقتصادية هائلة تركتها العقوبات الدولية وحصار الموارد، حيث تدهورت الأوضاع الاقتصادية، وارتفعت معدلات الفقر والبطالة، وانهارت العملة الوطنية، جميع هذه الأمور انعكاسات واضحة لآثار هذه الأزمة التي امتدت لتطال كل جوانب الحياة اليومية، هذه الأزمات الاقتصادية المستمرة تضع البلاد أمام واقع صعب يعوّق مساعي التعافي، مما يترك تداعيات عميقة على مستقبلها.
أثر الحرب على الاقتصاد السوري
بدأت ملامح انهيار الاقتصاد السوري تتجلى بوضوح مع اندلاع الأزمة في عام 2011، حين تعرضت البلاد لأزمات متتالية ألقت بظلالها على جميع القطاعات الاقتصادية، حيث فقدت الليرة السوريّة أكثر من 99% من قيمتها أمام الدولار، ما أدى إلى تضخّم هائل وانخفاض القوة الشرائية للمواطنين، فضلاً عن تدهور القدرة على استيراد السلع الأساسية، ناهيك عن العقوبات الاقتصادية المفروضة على النظام السوري السابق، إلى جانب الحصار الاقتصادي الذي منع وصول الموارد الحيوية، كل هذه الأسباب ساهمت بدورٍ كبير في تفاقم الأزمة. في ظل هذا المشهد القاتم، انخفض الناتج المحلي الإجمالي بشكلٍ كارثي من أكثر من 60 مليار دولار في عام 2010 إلى أقل من 6 مليارات دولار بحلول 2024، ما يعكس حجم الدمار الذي لحِقَ بالاقتصاد الوطني، فالقطاع الزراعي، الذي كان يُشكل أحد الأعمدة الرئيسية للاقتصاد السوري، تضرر بشدة بسبب النزاعات المستمرة، ونقص الوقود والأسمدة، وتهجير المزارعين من أراضيهم، ما أدى إلى تراجع الإنتاج بشكلٍ كبير. كذلك، تعرض القطاع الصناعي في المدن الكبرى مثل حلب ودمشق لدمار شبه كامل نتيجة القصف، النهب، وتوقف خطوط الإنتاج، وساهم ذلك في خلق ركود مزمن وتراجع مستمر في الاقتصاد السوري.
العقوبات الدوليّة وقانون قيصر
تُعدُّ العقوبات الدولية المفروضة على سوريا أحد أبرز التحديات التي تُعيق أي محاولة لإعادة بناء الاقتصاد، حيث تفرض هذه العقوبات قيوداً شديدة على مختلف جوانب الحياة الاقتصادية في البلاد. من بين هذه العقوبات، يُعتبر قانون “قيصر” الأمريكي الأكثر صرامة، والذي يستهدف بشكلٍ أساسي الكيانات الحكومية والشركات السوريّة من خلال تجميد الأصول، حظر التعامل مع المؤسسات الرسمية، وفرض قيود على استيراد المواد الحيوية كالوقود والغذاء.
هذه العقوبات أدت إلى تفاقم الأزمات المعيشية، حيث تسببت في نقصٍ حادٍ في المواد الأساسية مثل الوقود والقمح، مما زاد من معاناة المواطنين السوريين ورفع من معدلات الفقر والبطالة. على الرغم من سقوط النظام السابق، إلا أن الغرب ما زال يُصِرُّ في الحفاظ على هذه العقوبات، مما يُبقي الاقتصاد السوري في حالة من التدهور المستمر.
في 6 كانون الثاني 2025، أصدرت وزارة الخزانة الأمريكية “الرخصة رقم 24″، التي تتيح استثناءات مؤقتة للعقوبات المفروضة على سوريا لمدة ستة أشهر، حتى 7 تموز 2025. تسمح هذه الرخصة ببعض المعاملات مع المؤسسات الحكومية السوريّة، بما في ذلك قطاع النفط، بالإضافة إلى تسهيل التحويلات الشخصية غير التجارية إلى سوريا، عبر البنك المركزي السوري، حيث تهدف هذه الاستثناءات إلى دعم الخدمات الأساسية واستمرارية وظائف الحكومة في سوريا، دون السماح بالاستثمارات الجديدة أو المساهمات المالية التي قد تساهم في تمويل النظام الحاكم.
تأتي هذه الخطوة في وقتٍ حساس، حيث تسعى الحكومة المؤقتة إلى تجاوز التحديات الاقتصادية التي خلّفتها سنوات من الحرب، وتعتبر هذه الاستثناءات خطوة نحو تخفيف بعض القيود المفروضة على الاقتصاد السوري. مع ذلك، يرى بعض الخبراء الاقتصاديين أن هذه الاستثناءات وحدها لا تكفي لتحقيق انتعاش اقتصادي شامل، ويشددون على ضرورة رفع العقوبات بشكلٍ كامل لدعم جهود إعادة الإعمار والتنمية في سوريا.
احتياطات محدودة وخزائن شبه فارغة
مع تسلّم إدارة هيئة تحرير الشام لمهامها، باشرت في تقييم الوضع المالي للبلاد لتكتشف حجم التحديات الاقتصادية التي تواجهها، وصرّح رئيس الوزراء المؤقت محمد البشير بأن احتياطات النقد الأجنبي في المصرف المركزي بالكاد تتجاوز 200 مليون دولار، إلى جانب 26 طناً من الذهب بقيمة 2.2 مليار دولار بأسعار السوق الحالية، هذه الأرقام تعكس تدهوراً كبيراً مقارنةً بالاحتياطات التي بلغت 18.5 مليار دولار في عام 2010 وفق تقديرات صندوق النقد الدولي، وهي أقل بكثير من الحد الأدنى اللازم لتغطية واردات البلاد لثلاثة أشهر.
هذا التراجع المالي جاء نتيجة سنوات من الحرب والعقوبات الاقتصادية، حيث جُمّدت أصول سوريّة بقيمة مئات الملايين من الدولارات في الدول الغربية، فيما تشير تقارير إلى أن قيمة الأصول المجمدة في سويسرا وحدها تصل إلى نحو 112 مليون دولار، ومع هذا الانهيار المالي، تعاني البلاد من أزمات معيشية خانقة ونقصٍ حاد في الوقود والغذاء، مما رفع معدلات الفقر والبطالة إلى مستويات غير مسبوقة.
تحاول إدارة هيئة تحرير الشام تنفيذ إجراءات لإنعاش الاقتصاد، مثل توحيد سعر الصرف وزيادة رواتب القطاع العام، لكنها تواجه عوائق كبيرة بسبب نقص التمويل. في ظل استمرار العقوبات وتجميد الأصول، تبدو فرص الانتعاش محدودة، مما يعمّق الأزمة الاقتصادية ويُبقي الشعب السوري في معاناة مستمرة.
الإدارة الذاتية نموذج الصمود الاقتصادي في وجه التحديات
في ظل الأزمات الاقتصادية المتفاقمة التي عصفت بسوريا منذ اندلاع الحرب، برزت مناطق الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا كنموذج يُحتذى به للاستقرار النسبي وسط فوضى عارمة. هذه المناطق، التي استطاعت بفضل تنظيمها الإداري والاقتصادي المستقل، تحقيق توازنٍ نسبي مقارنةً ببقية المناطق السورية التي تئِنُّ تحت وطأة العقوبات والتدهور الاقتصادي الشامل.
بفضل مواردها الطبيعية المحلية من النفط والقمح، تمكنت الإدارة الذاتية من توفير الحد الأدنى من الخدمات الأساسية للسكان، متحديةً الصعوبات التي يفرضها قانون قيصر، والعقوبات الدولية، إضافةً إلى الحصار المفروض من قبل دولة الاحتلال التركي، ورغم تلك التحديات الكبيرة، أثبتت الإدارة الذاتية مرونةً واضحة في التعامل مع الأزمات، مُسخِّرةً إمكانياتها المحدودة لتطوير مشاريع تنموية تعتمد على الموارد المحلية وتُسهم في تحقيق قدر من الاكتفاء الذاتي.
إحدى العلامات الفارقة التي تُظهر نجاح الإدارة الذاتية في مواجهة الأزمات هي قدرتها على تقديم رواتب مقبولة نوعاً ما مقارنةً بمناطق الداخل السوري، ففي الوقت الذي يتقاضى فيه الموظفون في مناطق الداخل السوري رواتب تصل إلى حوالي 400 إلى 500 ألف ليرة سوريّة شهرياً، يبلغ الحد الأدنى للأجور في مناطق الإدارة الذاتية 1,000,000 ليرة سوريّة. هذا الفارق الكبير يعكسُ قدرة الإدارة الذاتية على تحسين مستوى معيشة السكان رغم التحديات، مع وجود توجهات مستمرة لزيادة هذه الرواتب بما يتماشى مع الظروف الاقتصادية.
إضافةً إلى ذلك، تُركز الإدارة الذاتية على دعم الخدمات الأساسية مثل التعليم والصحة، وتوفير المواد الأساسية كالخبز والمحروقات بأسعار مدعومة، هذه الجهود ساعدت في تخفيف العبء المعيشي عن السكان، مقارنةً بالمناطق التي تعاني من انقطاع الخدمات وارتفاع الأسعار بشكلٍ كبير.
وعلى عكس مناطق أخرى تخضع لفوضى إدارية وتفتقر لاستراتيجيات اقتصادية واضحة، نجحت الإدارة الذاتية في تقديم نموذج مختلف يركز على تعزيز الأمن الغذائي وتحسين البنية التحتية، هذه الجهود تجعل من الإدارة الذاتية منارة أمل تعكس قدرة المجتمعات المحلية على الصمود والإبداع في مواجهة التحديات، وتُظهِر إمكانياتها في بناء مستقبل أكثر استقراراً وازدهاراً، رغم المصاعب التي تواجهها.
العقوبات وانعكاساتها على حياة السوريين
أدت العقوبات الدولية المفروضة على سوريا إلى تفاقم معاناة الشعب السوري، حيث يعيش أكثر من 90% من السكان تحت خط الفقر، وفقاً لتقديرات الأمم المتحدة. ارتفاع أسعار الوقود والمواد الغذائية، إلى جانب ندرة العديد من الاحتياجات الأساسية، جعل تأمين متطلبات الحياة اليومية تحدياً صعباً للمواطنين، مما يزيد من حدة الأزمة الإنسانية التي تعصف بالبلاد.
في ظل غياب الدعم الدولي الكافي، تعتمد الحكومة الجديدة على مواردها المحدودة مع وعود باستعادة أصول مجمدة في الخارج تُقدّر قيمتها بنحو 400 مليون دولار. لكن حتى لو أُفرج عن هذه الأصول، فإنها تظل غير كافية لتغطية النفقات الضخمة المطلوبة لإعادة إعمار البلاد وتعزيز الاقتصاد.
الإدارة الحالية للولايات المتحدة، برئاسة جو بايدن، تركت القرار حول رفع العقوبات لإدارة ترامب القادمة التي ستتسلم السلطة في 20 كانون الثاني الجاري، مما يجعل الآمال مُعلّقة على الخطوات التي ستتخذها الإدارة الجديدة لتخفيف هذه الإجراءات.
في المقابل، يُصرُّ الاتحاد الأوروبي على ربط أي تخفيف للعقوبات بضمان حماية حقوق الإنسان وتحقيق العدالة الانتقالية. فيما تدعو بعض الأطراف الدولية إلى تقديم استثناءات إنسانية إضافية لتسريع إيصال المساعدات ودعم جهود إعادة الإعمار، لكن هذه المبادرات لا تزال محدودة ولا تُظهِر تغييرات كبيرة في سياسة العقوبات المفروضة، مما يُعمّق الأزمة ويُعقد سُبل الخروج منها.
تحديات إعادة الإعمار
تُعدُّ عملية إعادة الإعمار التحدي الأكبر لإدارة هيئة تحرير الشام، لا سيما في ظل الانكماش الاقتصادي الذي وصل إلى مستويات غير مسبوقة، حيث تحتاج سوريا إلى استثمارات ضخمة لإعادة بناء البنية التحتية، تحديث القطاعات الإنتاجية، وتوفير فرص عمل لملايين العاطلين عن العمل. تواجه البلاد أيضاً صعوبات كبيرة في تأمين التمويل اللازم نتيجة استمرار العقوبات الدولية التي تحد من التدفق الحر للموارد والأموال.
قرار الاتحاد الأوروبي وأمريكا برفع العقوبات سيكون مشروطاً بشكلٍ وثيق بسياسات إدارة هيئة تحرير الشام المؤقتة ومدى تعاطيها بفعالية مع الأزمة، فإذا لم تظهر إدارة هيئة تحرير الشام التزاماً حقيقياً بإجراء إصلاحات جوهرية وتعزيز الشفافية وحماية حقوق المواطنين، بالإضافة إلى الابتعاد عن النهج الإسلامي المتشدد في الحكم، ستبقى العقوبات سيدة الموقف، مما يُعقد فرص التنمية ويجعل مهمة إعادة الإعمار أكثر صعوبة.
في النهاية، مستقبل الاقتصاد السوري يعتمد على قدرة الحكومة المؤقتة على تقديم حلول حقيقية وفعالة تُبنى على أساس الشفافية والمشاركة، مع تحقيق التوازن بين مختلف مكونات الشعب السوري والعمل على خلق بيئة سياسية واقتصادية مستدامة. فمن دون استجابة صادقة لاحتياجات الشعب وتلبية تطلعاته، ستظل العقوبات تُشكّل حاجزاً كبيراً يحول دون تحقيق التنمية المستدامة والاستقرار.
ختاماً، تحقيق النهوض الاقتصادي في سوريا لن يكون ممكناً دون تعاون دولي مدروس وسياسات حكومية متوازنة تُعلي من قيمة الاستقرار والحوار الوطني، بما يضمن إعادة بناء سوريا بسلام وكرامة لكل أبنائها.