د. تيسير عبد الجبار الألوسي
واصل النظام السابق تشبثه بنهجه وتفرّده بالسلطة حتى اللحظة الأخيرة التي شهدت رحيل رأس النظام بطريقة مُذلة. لقد تسببت مراوغاته ومناوراته في إبعاد فرص الحل وفقاً لما نصَّ عليه القرار الأممي (2254) بشأن سوريا، والذي كان يهدف إلى استعادة حقوق الشعب وحرياته.
نتيجة لذلك، اندفعت قوة كانت حتى تلك اللحظة مسجلة على قائمة الإرهاب لتسطو على السلطة في غياب رأس النظام، وانسحاب كامل لجيشه، وتسليم البلاد للقوى الغازية من دون أي مقاومة، على الرغم من الادعاءات التي كان يروجها لعقود طويلة
ومع رحيل رأس النظام وتحجيم قواته القمعية والقتالية، يواجه الشعب السوري اليوم تحديات جديدة وأكثر حدة، فقد بدأت قوى السلطة البديلة بالكشف عن هويتها تدريجياً، بطريقة “تمسكن حتى تتمكن”، رافعةً شعارات براقة لم ترقَ حتى إلى مستوى إقرار الديمقراطية والمدنية، ناهيك عن العلمانية، كما أنها تسعى لإقصاء مكونات الشعب المختلفة.
وهنا نؤكد مجدداً حقيقة تركيبة الشعب السوري من مكونات وأطياف قومية ودينية ومذهبية وإثنية متعددة بصورة واضحة ملموسة، وتاريخها القديم والحديث يشهد بذلك مثلما جغرافيا الوطن السوري وتوزيع تلك المكونات.
هذا كله بكفة وفلسفة ذكورية باتت تصرح بالمكشوف بأن المرأة مكانها البيت جارية عبدة مما ملكت إيمان من يدّعي أنه وكيل الله أو المقدس على الأرض.
وأذكّر هنا بحقائق حدثت على الرغم من كل طلاسم التصريحات المضللة وهي مفضوحة بالتواءاتها وهلامية ادعاءاتها من قُبيل اغتيال العلماء والأساتذة والمتخصصين بميادين الهندسة والطب وما ماثلها، وأيضاً ترهيب النسوة في لباسهن والأزياء التي يخترنها، دع عنك فرص وجودهن في الأماكن العامة والمسؤوليات الحكومية، إلا إذا انصعنَ للتبعية المُذلة للسيد المتباكي على التدين السياسي الذي تمت تجربته في أفغانستان والعراق واليمن وغيرها.
ولعل من أبرز ما يلزم اليوم، هو أن نرصد كيف تعاملت السلطات من جهة مع اندفاعات قوات تركية أو تابعة لها وأخرى إسرائيلية من دون تحريك فعلي لأي ساكن يُذكر، بل إن السلطة لا تخفي تبعيتها لتركيا، إلى الحد الذي تباع فيه سوريا لأنقرة وأردوغان جِهاراً نهاراً.
ويُطرح موضوع الحوار الوطني وقبول التعددية في خيارات إقامة بديل بوقتٍ تنفرد قوة تم وضعها على قوائم الإرهاب أمريكياً، بل بمجلس الأمن ودولياً بمجتمع دولي بأسره، وتتشكل السلطة وحكومتها على هذا الأساس بزعم أنها انتقالية، ونحن ندرك إن السمو الدستوري هو للشعب وليس لأي طرف أو نص آخر، وأن الحكم الانتقالي يجب بصورةٍ مُلزمة أن يكون تعددياً يشمل الجميع، وإذا قلنا أن السلطة ليست انتقالية بل مؤقتة لتصريف أعمال لحين تشكيل الانتقالية، فإن الحديث عن سنوات بعيدة غير معلومة الأسقف هو ما يشي بالاتجاه، كما أن الأحداث الجارية تفضح الحقيقة المُبيتة لسوريا.
من هنا، فإن أي حوار وطني يلزم ألا يكون بخيمة طرف يملك السلاح والسلطة، ويجب أن يكون مفتوحاً بلا شروط مسبقة، ويلزم أن يستند إلى الوثائق والعهود الأممية التي تكفل حق تقرير المصير وحقوق الإنسان وحرياته كافة، كما تلتزم بسلطة قانون رسمية تعتمد منهجية لا تخضع ولا تسمح بوجود عناصر “ميليشياوية” مسلحة تحتل الشارع والحياة العامة.
ومن دون ذلك فإن المآل العراقي واليمني والليبي سيكون من الماضي الجميل نسبة لما سيُصنع لسوريا وينتظرها من حكم إسلاموي ظلامي (لن يتردد) في فرض نهجه الفاشي، وقد بدأ في التعليم وما يعرفه السوريون من تغيير مناهج وتوجيهات ظلامية باتت تحذف كل ما يتعلق بالعقل العلمي ومنجزاته الفكرية مثلما حذف قراءة نظرية التطور الأحيائي، ومن قبيل إدخال بدائل لمنطق الخرافة ودجل الأضاليل والأباطيل وغير ذلك، وما يتعلق بالعدل بكل ما يتحدث به عن مشروع الدولة الإسلامية بطريقة دولة الشام “الداعشية أو الطالبانية الأفغانية”.
إن مناورات القبول بالحديث ولو على مضض مع مسيحي أو مع كردي هي مجرد مناورة مؤقتة، لحين التمكن وامتلاك وسائل السطو الكلي (الشمولي)، بخاصةٍ مع استغلال السلطة الجديدة الانفتاح على العالم بطريقة التذاكي؛ مما لا ينفع معه مثلاً تبرير وزيرة خارجية ألمانيا أنها أبلغت من لم يصافحها كونها امرأة، أنَّ عليه احترام المرأة السوريّة! إذ كيف سيحترم المرأة من أهان (ممثلة) دوليّة! كيف سيحترمها بداخل سوريا وهو يؤمن بدونيتها وقوامته ووصايته عليها كونها ناقصة عقل ودين كما يؤوّل الأمور ونصوصها على وفق قراءته. أيها السادة إن القضية لم تكن مع شخص الدِكتاتور المهزوم وحده، بل مع نظام الدكتاتورية ونهجه وفلسفته، والبديل على وفق المشروع الأممي غير القابل لتعديلات من يسطو على السلطة اليوم، يؤكد أن البديل يجب إلزاماً أن يكون ديموقراطياً تعددياً يكفل سوريا علمانية تنسجم ومسيرة المجتمع المعاصر بأرجاء المعمورة. وإذا كانت التجربة العراقية وشبيهاتها قد انزلقت لسطوة إيرانية، فإن انزلاق سوريا لسطوة تركيّة سيواصل التخريب للإجهاز على أي حلم للدول الوطنية شرق الأوسطية في بنية تحترم شعوبها وتنتمي للعصر.
إن الكارثة الإقليمية تتضح وتتكشف بسرعة، وبلا حاجة لمتاعب في قراءتها ولننظر إلى آلية الاندفاع التركي بحجة مكافحة (الكرد) كيف تستغل “ميليشيات وعصابات” وكيف تواصل احتلال أراضي سوريّة وترتكب جرائم التغيير الديموغرافي المفضوح، فضلاً عن عملها المستمر على كسر أية قيادة كردية حرة لا تخضع لنهجها وتوجهاتها. والموضوع بحاجة لعمق نظر وبصيرة، كي يدرك الجميع أن انتصار الإدارة الذاتية هو انتصار لسوريا اليوم والغد، وموضوعنا الشائك يظل بحاجة للتعمق والتشعب الذي يغطي معالجته.
وللحديث بقيّة مع عميق التضامن مع أهلنا في سوريا بكل أطيافهم ومع الكرد بوصفهم الركن الجوهري لسوريا تعددية جديدة؛ فهل سندرك مهامنا التضامنية ومفردات نهجها، أم سنكون جزءاً من التصفيق السلبي لرحيل الدكتاتور واستبدال الدكتاتورية بأخرى، مع إضافة أسلمتها ومنحها ظلامية الإسلام السياسي الأفغاني والإيراني برداء وبرقع إخواني؟! لكم التعليق.