سوزدار رزكار (إعلامية)
المقاومة ليست وصفة جاهزة تُقدم على طبق من الذهب لشعب ما، ولا صفة يمتلكها أي إنسان كان، إنما يمتلكها كل إنسان حر، كل إنسان غيور على بلده، مدينته، حيه، شارعه وحتى منزله، صفة لكل إنسان يحب الحياة ويستحق العيش فيها بحرية دون استعباد.
خلال ثورة روج آفا “ثورة التاسع عشر من تموز” وبعد كل موجة من الهجمات التي تعرضت لها مناطق شمال وشرق سوريا، وعفرين وحيي الشيخ مقصود والأشرفية وصولاً إلى شنكال من قبل جيش الاحتلال التركي ومرتزقته، ومرور أهلها بالمجازر والقتل والخطف والاعتقال، ظهرت مقابلها المقاومة الشعبية بكل قواها في كل مرحلة من هذه المراحل بقدرات شعبية عالية وباستخدام إرادتهم الفولاذية، مروراً بتاريخ الشعب الكردي المليء بالثورات من ناحية والإبادات من ناحية أخرى، لكن دائماً ما كانت لصوت المقاومة رأي آخر، وهو “المقاومة قدرنا”.
لكل مرحلة وعصر خلفية راسخة إما مُنتصر فيها أو مهزوم وبكلا الحالتين يتعرف الشعب والعالم عبرها على تاريخه، ولكردستان أيضاً اسمها تحدث ويتحدث عنها العالم أجمع لمبادئها الراسخة بالبطولات، فما أن تسمع اسم كردستان حتى يخطر على البال كفاح شعبها الجبار.
لثورة روج آفا أيضاً نصيب من اسمها وهي اليوم محل فخر لكل العالم للمقاومة التي حصلت على أرضها في دحر أشرس مجموعات المرتزقة “داعش” وانتصارها على الأسلحة المتطورة خلال هجمات المحتل التركي من عفرين إلى الشهباء وحيّي الشيخ مقصود والأشرفية، من منبج إلى كوباني المقاومة، من الرقة إلى سري كانيه وصولاً إلى قامشلو وديرك، لكل جزء منها قصة كفاح ونضال خاض أهلها إلى جانب مقاتليها من أبنائهم ملاحم البطولة، بهذه البطولات التي كُلِّلت بالانتصارات بات العالم يعرف الكرد وقوتهم واسم مدنهم أكثر.
هذه الانتصارات كانت سبباً لإبداء الأوساط العالمية والمحلية إعجابها بما يدور في روج آفا عبر قوتهم وتنظيمهم، بهذا الصدد يُشيد أحمد الزاويتي كاتب وأديب وصحفي، من إقليم كردستان في إحدى مقالاته “لم أكن أعرف الكثير عن كوباني إلا بعد مقاومتها البطولية لغزو داعش عليها من جميع جهاتها، ومن تِلال سروج في الطرف التركي من الحدود، كنت أجد ريح كوباني! وأتذكر الآية المباركة عندما وجد يعقوب ريح يوسف “وَلَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قَالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ ۖ لَوْلَا أَن تُفَنِّدُونِ” (يوسف 94) كنت أجد هذه الريح عند مشاهدة كل انفجار، وهول سماع صوته، وكل اشتباك، وكل سيارة مفخخة وعملية انتحارية ومع كل غارة جوية، شاهدتها بعيني، كنت أجد من ذلك ريح كوباني”.
إذاً، المقاومة هي ثقافة يقتدي بها الشعب، وأنت تتابع المشهد وما يجري أمامك من احتلال لأرضك تفكر كيف يمكنك أن تصدهم بنصرٍ مُحقق.
ما يجري اليوم وجرى سابقاً يحصل على ضوء الإرادة نفسها، حيث تمر مناطق شمال وشرق سوريا بهجمات عنيفة من الجيش التركي ومرتزقته، وبمقابل ذلك يتحدى الأهالي هذا المحتل بطرق مختلفة، وتوجه آلاف الأبناء شيباً وشبابًا، كُرداً وعرباً بقوافل ضمت مئات الحافلات من عموم شمال وشرق سوريا إلى سد تشرين وجسر قره قوزاق.
خلال المسير، تعرضت القوافل لقصف جوي من جيش الاحتلال التركي أُصيب على إثره 15 مدنيّاً بينهم صحفيين واستُشهِد خمسة آخرين، إلا أن الأهالي أكملوا المسير ورفضوا التراجع، برفقة شهداء وجرحى ساروا رافعين شعارات النصر بمعنويات عالية نحو السد حيث تُسطّر هناك مقاومة تاريخية وعظيمة على أيدي مقاتلي قوات سوريا الديمقراطية ووحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة.
المقاطع والصور الآتية من وفود القوافل بين صمودهم في البقاء على السد وحلقات الدبكة وسط نيران قصف طائرات المحتل وأزيز الرصاص يوضح إيمانهم الكبير بقضيتهم وبحبهم لمدنهم وقواتهم، ويؤكدون أكثر بأنهم سيواصلون بقاءهم في سد تشرين والوقوف إلى جانب المقاتلين.
ما يحدث في سد تشرين أشبه بملحمة لا تحدث إلا في الخيال وكتب الأساطير، شعب يجعل من أجساده جسوراً لمقاتليه لصد المحتل، تلك “الأم” من كوباني التي تتحدث بكل قواها على سد تشرين “نحن أكبر من الموت” رسالة تأكيدية على أنهم مُحال أن يضعفوا، بهذه الإرادة الصلبة التي يتحلون بها مقتنعين بأن النصر مؤكد اليوم أو غداً، لكن حتماً سننتصر.
إن عدنا بالتاريخ والسنوات إلى الوراء، سنرى المقاومة ذاتها تكررت مرات ومرات بوجه المحتل، ففي عام 2018 أثناء الهجمات الوحشية للمحتل التركي على عفرين والتي دامت لـ 58 يوماً شكّل الأهالي دروعاً بشرية، حيث شهدت عموم المناطق من إقليم الجزيرة والفرات ومدينة حلب إلى شنكال ولبنان تضامناً كاملاً مع عفرين لصد المحتل، وتوجهوا بمئات القوافل ولمرات عدة نحو أرض الزيتون تحت وقع قصف طائرات الاحتلال التركي.
قوافل الأهالي ومساندتهم لبعضهم البعض ولقواتهم تكررت كذلك عام 2017 بالتحديد جبال قره جوخ، تنديداً بالعدوان التركي حينها، كما تجددت عام 2019 إبان الهجمات على سري كانيه، والتي استُشهد أثناء مسيرة القوافل حينها العشرات وأُصيب عدداً من المدنيين.
أيضاً لأهالي باكور كردستان حلقة من المقاومة الخاصة، ففي عام 2014 وأثناء هجمات داعش على كوباني قاوموا لأشهر على الحدود الفاصلة بين روج آفا وباكور كرستان، واليوم يُعيد المشهد نفسه حيث عمل الأهالي سلسلة من حلقات المناوبة على الحدود للتنديد بهجمات المحتل مساندةً وتضامناَ ودعماً لمقاومة روج آفا.
إذاً، هُنا تكَمن العزيمة والإصرار والإرادة والمقاومة، وهكذا هم أبناء الكُرد مثال القدوة للعالم، حيث يقدمون في كل مرة براهين على ثقافة المقاومة التي يتحلون بها.
كشاهدة على المعارك والمقاومة لمرات ومرات، لربما يكون وصفي غير كافٍ مقارنةً بمقاومة المقاتلين والمقاتلات والأهالي بشعوبهم اليوم في سد تشرين وعموم شمال وشرق سوريا قليلاً، لكن ما أُريد قوله “لو لم أكن كُردية، ابنة هذا الشعب المُقاوم.. لتمنيت أن أكون كردية كردية…”.