عبد العزيز قاسم (إعلاميٌّ وكاتبٌ صحفيٌّ)
استيقظنا هذا الصباحُ في عروسِ البحرِ، جدةَ، على غيماتٍ خجولاتٍ تنثرُ ظلَّها الرقيقَ فوقَ المدينةِ، ولاعتيادِنا في فارطِ أيامِنا على تبدُّدِها سريعًا بسطوعِ الشمسِ، لم يَدرْ في خلدي أنَّ تلكَ الغيماتِ، التي بدتْ كوشاحٍ حريريٍّ فوقَ السماءِ، ستتحولُ إلى غيومٍ دكناءَ، تهطلُ مطرًا كثيفًا، ويا لروعةِ صوتِها وهي تتسَّاقطُ كسيمفونيةٍ صاخبةٍ توقظُ في الروحِ مشاعرَ مدفونةً، وتجعلُ الحواسَّ كلَّها تتماهى معَ اللحنِ الضاجِّ!
المطرُ في جدةَ حَدثٌ لا يتكرّرُ كثيرًا، ولهذا أجدني أنشَدُّ لهذهِ الأجواءِ كما تنجذبُ الفراشةُ إلى الضوءِ. أنا ابنُ الطائفِ، عروسِ المصايفِ، تلكَ المدينةِ التي عانقتْ طفولتِي بهزيمِ الرعودِ وومضِ البروقِ، وبالأمطارِ التي كنَّا نعيشُ تحتَها لا نختبئُ منها. هذهِ الأجواءُ ليستْ مجرَّدَ طقسٍ بالنسبةِ لي، إنها لغةُ الحياةِ، تذكّرُني بمنْ أنا، ومنْ أينَ أتيتُ.
جلستُ أمامَ نافذةِ مكتبتِي، حيثُ صومعتي الفكريّةُ، بينَ مئاتِ الكتبِ التي دفعتُ فيها عزيزَ الأموالِ، وبيدي كوبُ قهوةٍ كبيرٍ، يبعثُ دفءَه في أطرافِ أصابعِي، ورائحةُ المطرِ تختلطُ معَ نكهةِ البنِّ كأنَّهما أصدقاءُ قدامى.
فتحتُ كوّةً رغْمًا عنّي، لتنثالَ الذكرياتِ، التي أخذتْني لعروسِ المصايفِ، حيثُ كنَّا أطفالًا يرتفعُ صخَبُنا وصيحاتنا الفرحة بتلك الحواري الشعبية تحتَ زخّاتِ المطرِ، بين أصواتِ أمهاتِنا الوَجِلاتِ تتردَّدُ منَ النوافذِ بلهجةِ تهديدٍ ووعيدٍ: “عودوا الآنَ!”. كنَّا نعودُ بقلوبٍ مثقلةٍ، متزاحمينَ على النوافذِ الصغيرةِ نطلُّ على الشارعِ الذي يسيلُ، ولا نُصدّقُ متى يتوقَّفُ المطرُ حتى نُهرعَ لأسطحِ المنازلِ، كي نلتقطَ تلكمِ البردياتِ البيضاءَ، وقد تجمعتْ في الزوايا، نزدردُها بكلِّ تلذذٍ وشغفٍ، ونستمتعُ بلسعاتِها الباردةِ على أفواهِنا الصغيرةِ.
وفي حينِ غفلةٍ منْ أمهاتِنا، ترانا نتسللُ لِواذًا إلى حيثُ الحارةِ، وقد أمِنَّا العقوبةَ البدنيّةَ -قرصّةٌ مُؤلمةٌ من مَنبعِ الحنان- التي ستتحوَّلُ لتقريعٍ لفظيٍّ؛ كونَ المطرِ توقّفَ، لنجدَ لداتِنا في انتظارنا بزاوية حارتِنا الشعبيّةِ، ونتَّفقُ على الانطلاق إلى وادي “وجِّ” القريبِ، وقد فاضَ بسيلٍ هادرٍ، لم يَصمدْ سدُّ “عكرمة” على حبسه، ليقسمَ المدينةَ منْ منتصفِها.
ندخلُ في تحدٍّ معَ تلكَ المياهِ المختلطةِ بأتربةِ المزارعِ التي مرَّت بها، حاملةِ في غثائها بعض الفواكهَ؛ لنخوضَ في طرفِ السيلِ، نلاحقَ تلكم الفواكهَ التي حملها الماءُ، ونتنافسُ بشجاعةِ الأطفالِ على منْ يظفرُ بأكبرِ عددٍ، كأنَّ الوادي يختبرُنا، يختبرُ رغبتَنا في الحياةِ وفي اللعبِ حتى في وجهِ الطبيعةِ الهائلةِ. مدينتِي الطائفُ لم تكنْ مجرَّدَ مدينةٍ، بل كانتْ مسرحًا لأحلامِنا الأولى.
أمَّا في يفاعتِنا، فقد كانَ المطرُ شريكًا لمبارياتِنا في ملاعبِ “الردَّفِ”. لم نكنْ نأبهُ بكميةِ الماءِ التي تسَّاقطتْ، بل كنَّا نَخوضُ ذلك الجنون حتى لو كانت الأجواءُ؛ بمثلِ التشبيهِ التراثيِّ القديمِ: “كأنَّما السماءُ فُتحتْ على أفواهِ القِرَبِ”، حيث كنَّا نرى أنفسَنا -إذَّاك- في “أنفيلدَ” ملعبِ ليفربولَ الأسطوريِّ، وقد كانَ في مجدِه، نتشبّهُ و”دالغليشَ”، و”إيانَ راشَ”، و”غراهامَ سونَسَ”، والملعبُ تحولَ لبركةِ ماءٍ، التي توقفُ الكرةَ مباشرة على سطحِها بمجرَّدِ قذفِ أقدامِنا لها، وكأنَّ الأمطارَ كانتْ تبعثُ الروحَ في تلكَ الأحلامِ.
في شرفةِ أعمارِنا اليومَ، والحياةُ غيَّرتْنا بعدَ أنْ سَاطتْنا بأيَّامِها الكالحاتِ وأمتعتْنا بلحظاتِ السعادةِ، في سيرورةٍ كونيةٍ ماضيةٍ بنا؛ أصبحَ المطرُ اليومَ صديقَ التأملِ، يجلبُ معهُ ذكرياتِ الماضي ويفتحُ أبوابَ الحلمِ.
أنا على أريكتِي هذا الصباحِ، قمتُ -عَمدًا- بقطعِ حبلِ الذكرياتِ، وفتحتُ كوّةً جديدةً على المستقبلِ؛ لأرى نفسِيَ في كوخٍ مُطلٍّ على سَهلٍ مُخضوضَرٍ ممتدٍّ إلى الأفق، وبحيرةٍ ساكنةٍ تحوّلَ لونُها الفاقعُ الزُّرقةِ إلى لونٍ رماديٍّ بفعلِ الغيومِ التي فوقَها، وقد هتَنتْ علينا، وتساقطَ المطرُ بدلالٍ أمامِي، ورائحةُ الحطبِ المنبعثةِ منَ المدفأةِ، المختلطة برائحة البنِّ على الموقد؛ لتغمرُ المكانَ، وأنا سَادرٌ في اللحظةِ الملهمةِ لا أودُّ أنْ يُفيقنِي أحدٌ. في تلكَ اللحظاتِ، أعيشُ حنينَ الماضي وأحلامَ المستقبلِ معًا، وكأنَّ المطرَ هو الجسرُ الذي يربطُ بينَ الزمنينِ.
المطرُ، يا أحبةُ، ليسَ مجرَّدَ ماءٍ ينسابُ منَ السماءِ، بل هو حياةٌ تُبعثُ في النفسِ، وذكرياتٌ تُغسلُ بالغيثِ، وأحلامٌ تُرسمُ تحتَ كلِّ قطرةٍ.