د. طه علي أحمد
تأتي الدعوةُ التي أطلقتها الإدارةُ الجديدة في دمشق بشأن حل الفصائل وتسليم السلاح من قِبَل القوى العسكرية في سوريا في وقتٍ حاسمٍ ومتأزِّمٍ بالنسبة للعملية السياسية التي تشهدها سوريا منذ سقوط النظام وهروب رؤوسه في الثامن من كانون الأول 2024، فالإدارةُ التي شَكَّلت حكومةً لتصريف الأعمال بشكلٍ مُنفرد يبدو أنها تمضي بالتوازي (وليس بالتقاطع) مع الموقف التركي الرامي لبسط الهيمنة على المشهد السياسي والأمني في “سوريا الجديدة”، بغض النظر عن الكُلْفَةِ البشرية وتحديداً بين المكون الكردي الذي يُمَثِّل بيت القصيد بالنسبة للموقف التركي. ففي أعقاب زيارته لدمشق في 22 كانون الأول أعلن وزيرُ الخارجية التركي هاكان فيدان أنه تناقش مع الإدارة الجديدة بشأن قضية وحدات حماية الشعب الكردية وحزب العمال الكردستاني، ثم أعقب ذلك تصريحُ الرئيس التركي الذي اختص فيه كرد سوريا بأن “يسلموا أسلحتهم أو يُدْفَنوا” في الأراضي السوريّة، وبعيداً عمَّا تضمنه هذا التصريح من انتهاكٍ لسيادة سوريا كَوْن المعنيين في خطاب أردوغان مواطنين سوريين بالأساس، فإن التعصُّب الذي كشفته عبارة “سيُدْفَنون” تعكس ما وصل إليه الرئيس التركي من إصرار على عدم السماح بأي تجربةٍ كُرديةٍ تخرج عن إرادة أنقرة، حتى وإن كان ذلك تحت مظلة دولة مدنيّة في سوريا كما دعت المبادرة التي أطلقتها “الإدارةُ الذاتية لشمال وشرق سوريا” في عشرة بنود بتاريخ 16 كانون الأول والتي تضمَّنت، بجانب الحفاظ على وحدة وسيادة الأراضي السوريّة، عُقْد اجتماعٍ طارئ تتشارك فيه القوى السياسية في رسم مستقبل سوريا بجانب بنود أخرى. غير أنه، ونتيجة للتدخّل التركي في صياغة المشهد السياسي والأمني السوري، لم يُلْقِ المعنيون لمبادرة الإدارة الذاتية بالاً، ونتيجة لذلك اقتصرت الاستجابة لمبادرة تسليم السلاح على الفصائل الموالية للإدارة الجديدة، والتي ترتبط في مجملها بالتأييد والدعم التركي، في حين غابت عنها القوى التي ارتبطت مواقفها بالحصول على ضماناتٍ فعالةٍ بالمشاركة في إدارة سوريا الجديدة، من خلال دستورٍ توافقي يضمن ذلك. ولهذا فقط تمخَّض اللقاء، الذي شارك فيه بعضُ وليس كل المستهدفين من الدعوى، عن إعلان يقضي بحَلِّ الفصائل المسلحة واندماجها تحت مظلة وزارة الدفاع، غير أن هذا الإعلان الذي افتقر للتفاصيل والبنود التي تم الاتفاق عليها قد عكس غياب الجدية اللازمة لهذه الدعوة لصالح الرغبة في إبراز قوة الإدارة الجديدة في دمشق وسيطرتها ومدى قدرتها على ضَبْط المشهد السياسي، وهو ما يتعزَّز بحقيقة أن هذا الاجتماع قد غابت عنه قوى مؤثرة مثل “قوات سوريا الديمقراطية” (قسد) (في الشمال والشرق) والفصائل المسلحة في السويداء (بالجنوب) وغيرها، بما يعكس غياب الثقة كأبرز ما يُميّز المشهد السياسي السوري الجديد.
لا ينفصل هذا المشهد المتأزم عن المساعي التركيّة لحشد “اصطفافٍ وطنيٍ وهميٍ” يبدو فيه أيُ تحفظٍ كرديٍ أو درزيٍ أو غير ذلك في هيئة “الخارج عن الصَّفِ الوطني” أو “الفِلُول” بما يُبَرِّر التحشيد العسكري الذي تقوده أنقرة من خلال ما يُعْرَف بـ “الجيش السوري الحر” سواء في مِنبج أو غيرها، ليبقى السوريون متورطين في آتون بيئةٍ سياسيةٍ مُعَقَّدةٍ ورَخاوةٍ أمنيةٍ تناسب أصحاب المشاريع الخارجية، الأمر الذي يفرض على السوريين بمختلف مكوناتهم المذهبية والعرقية الاصطفاف خلف مشروعٍ وطنيٍ يتمحور حول إقامة دولة وطنية لامركزية تستوعب التعددية والتنوع في مواجهة منطق الحكم الأحادي الذي يبدو أن سوريا تنزلق إليه، وبعيداً عن ذلك، سوف تظل “عَسْكَرَة” المشهد السياسي والاجتماعي السوري حجر عَثرة في طريق تشكيل سوريا الجديدة ما لم تتبع الإدارة الجديدة سياسةً وطنيةً خالصةً لإدارة التنوع والاندماج الوطني، بما يحقق العدالة الاجتماعية داخلياً والاستقلال السياسي خارجياً.