قامشلو/ ملاك علي – حين تختار الكاتبة أن تكتب عن الألم، فهي لا توثّق فقط، بل تنسج ذاكرة، وتخلّد موقفاً، هكذا فعلت الكاتبة والناشطة الكردية “حنان عثمان” في إصدارها الأول “خنساء كردستان”، الذي جاء ليُسلّط الضوء على واحدة من أنبل صور الأمومة النضالية “الأم نوفة”، التي قدّمت أربعة من أبنائها شهداء، وظلّت واقفة كالجبل، تُلهم شعبها الصبر والثبات.
“حنان عثمان”، التي تنتمي إلى الجيل الكردي المولود في الشتات اللبناني، اختارت أن تكتب بلغتها الثانية، العربية، عن امرأة تشبه الأرض في اتساعها والوجع في عمقه، ورغم أن الكتاب هو أول عمل أدبي لها، إلا أنه يكشف عن وعيٍ ناضج ورؤية توثيقية حادة، تجمّل الحقيقة دون أن تُجمّل الألم.
في “خنساء كردستان”، لا تكتفي الكاتبة بسرد سيرة الأم نوفة، بل تُسلّط الضوء على محطات منسية من تاريخ الشعب الكردي، خصوصاً في لبنان، وتُعيد من خلال هذا العمل الاعتبار لصوتٍ نسائي نضالي لطالما كان حاضراً في الظل، يجمع الكتاب بين التوثيق الإنساني والبعد السياسي، ويُقدّم شهادة حية عن امرأة تجاوزت جراحها لتكون أمّاً للثورة، وذاكرة لقضية، ورمزاً لكل الخنساوات الكرديات.
سيرة وطن في قلب أم
وفي لقاء خاص تحدثت لصحيفتنا “روناهي” الكاتبة ومسؤولة لجنة المرأة في رابطة نوروز الثقافية الاجتماعية “حنان عثمان” أن “خنساء كردستان” لا تمثل شخصية واحدة فقط، بل هي كل أم كردية مناضلة قدمت أبناءها فداءً لقضية شعبها، وكانت دوماً سنداً في مسيرة النضال الوطني”، وأضافت: “في كردستان، لدينا المئات بل الآلاف من الخنساوات العظيمات، نساء حملن على عاتقهن همّ الشعب وحلمه بالحرية، وواجهن الألم ودفعن الثمن دون تراجع، إنهن رمز للتضحية والصبر والصمود”.
أشارت “حنان” إلى أن القائد عبد الله أوجلان أطلق لقب “خنساء كردستان” على “الأم نوفة”، تكريماً لصمودها وتضحياتها، بعد أن فقدت أربعة من أبنائها في سبيل حرية الشعب الكردي، رغم هذا الثمن الباهظ، بقيت الأم نوفة صلبة، متمسكة بمسيرتها النضالية، فغدت رمزاً للمرأة الحرة الصامدة.
تقول حنان: “شبّهها القائد بالخنساء في التاريخ الإسلامي، حيث صارت رمزاً للصبر والتفاني بعد فقدان أبنائها في المعركة، الأم نوفة أيضاً، تجاوزت آلامها الشخصية لتصبح أمّاً لأمة بأسرها”.
وتوضح حنان أن اختيارها للأم نوفة لم يكن فقط تقديراً لتضحياتها، بل لأنها تمثل نموذجاً للمرأة الواعية، المناضلة من أجل المساواة والدفاع عن حقوق النساء، وتضيف: “في قصتها، وجدت صدىً لأصوات نساء كثيرات ظلّت حاضرة ومؤثرة، رغم أنها لا تُسمع بما يكفي، رغم كونها عماد كل حركة تحرر”.
وعن بداياتها في عالم الكتابة، تذكر أنها كانت تكتب منذ زمن بعيد في قضايا سياسية واجتماعية، لا سيما ما يخص المرأة، وتقول: “هذا الكتاب هو أول عمل متكامل لي، شعرت أن قصة الأم نوفة تستحق أن تُوثق، كي لا تُنسى، ولكي تُروى كصوتٍ نسائي نضالي في ذاكرة شعبنا”.
وترى حنان أن الكتابة بالنسبة لها ليست مجرد شغف، بل وسيلة للتأثير والتغيير، ووسيلة للدفاع عن القضايا العادلة، وتؤكد: “لطالما كانت الكتابة بالنسبة لي استجابة لواجب داخلي، أعبّر من خلالها عن مواقفي، وأحاول أن أُحدث أثرًا بالكلمة كما بالفعل”.
الكتاب، الذي يتألف من 216 صفحة، هو سيرة ذاتية توثق حياة الأم نوفة، لكنه يتجاوز السيرة الفردية إلى توثيق تاريخ كردي أوسع، يتوزع على ثلاث محطات رئيسية، منها تاريخ الشعب الكردي ومعاناته من القمع والتهجير، إلى جانب إنجازاته ونضالاته، وتاريخ الكرد في لبنان، مع تركيز خاص على شهداء لبنان الثمانية الذين يمثلون مرحلة مفصلية من نضال الكرد خارج الوطن، وإضافة إلى حياة الأم نوفة وأبنائها الشهداء الأربعة، وتجربتها كأمٍ لم تُكسر رغم الفقد، بل أصبحت رمزاً للتضحية والإرادة.
رحلة التوثيق بين اللغة والمنفى
كُتب الكتاب باللغة العربية، بسبب حرمان الكرد من التعلم بلغتهم الأم، تقول الكاتبة: “رغم إنني أتكلم الكردية بطلاقة، إلا أنني لا أكتبها بعد بالراحة الكافية لإنجاز كتاب بهذا الحجم، أتمنى أن أكتب بلغتي الأم في المستقبل، لأن الكتابة بها ستكون امتداداً طبيعياً لهويتي”.
أما أبرز التحديات التي واجهتها خلال كتابة العمل، فكانت شحّ المعلومات والمراجع حول تاريخ الكرد في لبنان، وهو جانب ما زال مظلوماً توثيقياً، تقول: “اضطررت للبحث الشخصي المكثف، والربط بين شهادات وأحداث، لجمع تفاصيل دقيقة عن هذه المرحلة المهمة”.
الكتاب طُبع أولاً في روج آفا عبر دار “شلير”، وتولت الدار توزيعه هناك حالياً، تُحضّر حنان لإطلاق الطبعة الثانية في مصر، بهدف الوصول إلى جمهور أوسع في العالم العربي، كما يُجرى الإعداد لحفل توقيع في لبنان، نظراً لرمزية البلد في محتوى الكتاب.
وحول عدد النسخ الموزعة، بينت حنان أنها لا تملك رقماً دقيقاً بعد، خاصةً وأن الكتاب لم يصل إلى لبنان بشكلٍ رسمي حتى الآن، لكنها تأمل في أن يُتاح قريباً لجمهور أوسع.
تحمل صفحات الكتاب رسائل عميقة، أولها التأكيد على أهمية دور لبنان في مسيرة النضال الكردي، وإبراز التضحيات الجليلة التي قدّمتها العائلات الكردية هناك، خصوصاً من خلال شهداء لبنان الثمانية، كما يهدف إلى توثيق سيرة الأم نوفة كرمز للأم الكردية المناضلة، التي لم تكن شاهدة على الأحداث فقط، بل كانت فاعلة فيها، وأصبحت جزءاً من الذاكرة الجمعية لشعبها.
لا تُنهي الكاتبة حديثها إلا بتأكيدها أن هذا الكتاب هو بداية لمسار ثقافي ونضالي طويل، هي تكتب حالياً في صحيفة روناهي، وتركز بشكل خاص على قضايا المرأة، تقول: “هذا الكتاب ليس نهاية الرحلة، بل بداية الطريق”.
يتضح أن كتاب “خنساء كردستان” ليس مجرد سرد لسيرة شخصية، بل هو عمل توثيقي يحمل في طياته مسؤولية تاريخية وإنسانية، ويعيد الاعتبار لصوت نسائي ظل مهمشاً رغم عمقه وتأثيره عبر صفحات الكتاب، تنجح الكاتبة حنان عثمان في بناء جسر بين الذاكرة الفردية والذاكرة الجمعية لشعب يعاني من النسيان القسري. إنها تفتح من خلال هذا العمل نافذة على وجعٍ مشترك، وتُبرز صورة الأم التي لم تُهزم، والمرأة التي واصلت حمل همّ الوطن حتى في أقسى لحظات الفقد.
“خنساء كردستان” هو شهادة حيّة على أن الكلمة قادرة على مقاومة النسيان، وأن الكتابة تبقى أحد أنبل أشكال النضال.