قامشلو/ آرين زاغروس ـ في سوريا الجديدة، لن يكتمل مشروع “الأمة الديمقراطية” دون الاعتراف بالتعددية الثقافية واللغوية، ومنها اللغة الكردية التي يجب أن تكون جزءاً من هذا المشهد الوطني الجامع، والمسألة الآن لم تعد: هل يجب الاعتراف باللغة الكردية؟ بل متى وكيف سيتم ذلك؟
بعد عقود من التهميش والقمع، يترقّب أبناء الشعب الكردي في سوريا مرحلة جديدة من الحرية الثقافية واللغوية، مع تصاعد الحديث عن “سوريا الجديدة” بعد سقوط النظام السابق، الذي ارتبط اسمه طويلاً بسياسات إقصائية طالت شعوب عدة، وفي مقدمتها الكرد.
واللغة الكردية، التي تُعد ركناً أساسياً من هوية الشعب الكردي في سوريا، عانت عبر عقود من الإقصاء الممنهج، فلم تكن تُدرّس في المدارس، ولم يُسمح باستخدامها في الإعلام أو المؤسسات الرسمية، بل إنّ الحديث بها في الأماكن العامة كان يوصف بأنه “خروج عن القانون” ويجب محاسبة من يتكلم بها، وكانت هذه السياسة جزءاً من مشروع أوسع هدفَ إلى إذابة الهوية الكردية في قالب الهوية العربية الرسمية للدولة.
قمع طويل… ومقاومة صامتة
تاريخياً، حاول الكرد الحفاظ على لغتهم وثقافتهم من خلال مبادرات فردية: تعليم سري داخل المنازل، كتابة نصوص أدبية بالكردية، تنظيم حفلات خاصة للأغاني والرقصات الفلكلورية، ومع ذلك، ظلت هذه الأنشطة تحت طائلة الملاحقة الأمنية، فيما بقيت الكتب الكردية تُصادر، ووسائل الإعلام الكردية تُحجب.
حتى كبار المثقفين الكرد، لم يكن يُعترف بهم داخل مؤسسات الدولة، إلا إذا كتبوا بالعربية، الشاعر الكردي المعروف جكرخوين، مثلاً، لم يُقبل في رابطة الكتّاب العرب في خمسينيات القرن الماضي لأنه كتب بلغته الأم، ما يعكس عمق الإقصاء الثقافي واللغوي الذي تعرض له الكرد في سوريا.
هل تتغيّر المعادلة في سوريا الجديدة؟
منذ قيام الإدارة الذاتية الديمقراطية في إقليم شمال وشرق سوريا منحت الشعوب الحق بالتحدث بلغتهم الأم، إذ تُدرّس اللغة الكردية في المدارس، وتُستخدم في الإعلام المحلي، كما تُرفع لافتات رسمية باللغات الكردية والعربية والسريانية والأرمنية، وهذه المظاهر تعكس بداية اعتراف واقعي – وإن كان محدوداً – باللغات المتنوعة في المنطقة، ضمن مشروع إدارة ذاتية تسعى إلى تمكين الشعوب الثقافية في مناطقها، ولكن السؤال الأكبر يبقى: هل سيكون هناك اعتراف رسمي باللغة الكردية على مستوى سوريا في المستقبل؟
فاليوم، ومع التحولات السياسية الجارية، تلوح فرصة حقيقية لإعادة بناء سوريا على أسس ديمقراطية تعددية، تعترف بجميع شعوبها الثقافية، وهذا يتطلب إدماج الثقافة الكردية بشكلٍ كامل في الحياة العامة، من خلال الاعتراف باللغة الكردية كلغةٍ رسمية.
إذ يرى مراقبون أن الاعتراف باللغة الكردية كلغة رسمية ثانية في سوريا يتطلب تعديلاً دستورياً جوهرياً، ووجود إرادة سياسية لدى النخب الحاكمة في المرحلة المقبلة، فاللغة ليست مجرد أداة تواصل، بل تمثل حقاً ثقافياً أصيلاً، يندرج ضمن حقوق الإنسان الأساسية، والاعتراف بها في التعليم والإعلام والإدارة المحلية سيكون اختباراً حقيقياً لمدى جدية التغيير في سوريا ما بعد الأسد.
الاعتراف… ضرورة لا خيار
الكثير من الناشطين والكتّاب الكرد يعتبرون أن أي عملية انتقال سياسي في سوريا يجب أن تتضمن ضمانات دستورية لحقوق الكرد، في مقدمتها الحق في استخدام لغتهم الأم، وهذا يشمل تدريسها في المدارس، ودعم وسائل إعلام كردية، وفتح المجال أمام الإبداع الأدبي والفني الكردي دون قيود.
وفي المقابل، لا يعني الاعتراف باللغة الكردية تهديداً للوحدة الوطنية، بل تعزيزاً لها، إذ أثبتت تجارب دول مثل العراق التي اعترفت بالكردية لغة رسمية منذ عام 2003، أن الاعتراف بحقوق الكرد اللغوية يسهم في تحقيق الاستقرار الاجتماعي والسياسي، عندما يُنظر إليه باعتباره خطوة نحو العدالة الثقافية.
وإن تأسيس سوريا جديدة لن يكتمل دون ضمان حقوق الكرد الثقافية واللغوية، فالتنوع هو أساس الاستقرار، والاعتراف بالثقافة الكردية ليس منّة، بل حق أساسي، يجب أن تشمل رؤية المستقبل بناء بيئة قانونية تضمن هذا الاعتراف، وتصون حقوق كل الشعوب دون تمييز، لنضمن وطناً يتسع للجميع، ويعكس ثراءه الثقافي الحقيقي.