قامشلو/ علي خضير – يحتفل الشعب الكردي في 15 أيار من كل عام بيوم اللغة الكردية، منذ أن خصص المؤتمر الوطني الكردستاني يوم اللغة الكردية في عام 2006، ويأتي هذا اليوم بعد مراحل عدة مرت بها هذه اللغة وسنوات من السعي لصهرها وإمحاء وجودها، وتعيش اللغة الكردية اليوم نهضة من مختلف الجوانب، حيث حُدّد هذا الاحتفال بهذا التاريخ لأنه يصادف تاريخ إصدار أول عدد لمجلة “هاوار” الأدبية الكردية، التي أسسها “جلادت بدرخان” في دمشق، وصدر عددها الأول في 15 أيار 1932.
شهدت اللغة الكردية تطوّراً ملحوظاً في كافة جوانبها، فقد مورِسَت بشكلٍ خاص منذ انطلاقة ثورة 19 تموز وتأسيس الإدارة الذاتية، بشكلٍ رسمي في جميع المؤسسات ولا سيما في المدارس والجامعات، كما أُصدِرت عدّة وسائل إعلامية مقروءة ومسموعة تمارس عملها الإعلامي باللغة الأم الكردية، بالإضافة لإقامة عدة فعاليات كالمهرجانات الأدبية والفنية والمسرحية.
وبإقبالنا على يوم اللغة الكردية المصادف لـ 15 أيار، هذا اليوم التاريخي الذي يعود ليوم نشر المجلة الكردية المعروفة بـ (هاوار)، التقينا عدد من المهتمين بممارسة وتعليم اللغة الكردية بمدينة قامشلو، تحدّثوا عن المراحل التي تطوّرت من خلالها اللغة الكردية في كافة المجالات، موضحين أنها وصلت اليوم لمستوى مرموق، وشدّدوا على أهمية تعزيز هذه اللغة إلى جانب ضرورة الاعتراف بها رسمياً في سوريا كحقٍ منصوص وشرعي إلى جانب اللغات الأخرى.
SZK.. المؤسسة المعنية بإعداد الأبحاث للغة والأدب الكرديّين
وفي السياق، التقت صحيفتنا “روناهي” بدايةً، مع “نيجيرفان عبد العزيز“، الإداري في لجنة اللغة بمؤسسة اللغة الكردية (SZK)، والتي تأسست منذ عام 2003، من أجل العمل على تطوير اللغة الكردية، ولكن قمع واضطهاد النظام البعثي السوري السابق حال دون افتتاح المؤسسة بشكلٍ رسمي، وبدأت مؤسسة اللغة الكردية بإعداد الأبحاث حول اللغة والأدب الكرديين على مستوى جميع أجزاء كردستان، وبعد مرور ثلاثة أعوام من العمل المكثف أصدرت المؤسسة مرجعاً لغوياً خاص بقواعد اللغة الكردية في شمال وشرق سوريا باسم .(Rêzimana Kurmancî) ومن الأبحاث التي تعمل عليها مؤسسة اللغة الكردية الآن، بحث حول اللهجات الكردية، بالإضافة إلى بحث آخر حول الأدب الكردي. حيث أوضح عبد العزيز، إنّ لكل لغة يوم خاص بها، ويعبّر هذا اليوم عن مدى ارتباط الشعب بلغته، وعن حق كل شعب بالتعلم بلغته وممارستها في كل مجالات الحياة، في هذا اليوم 15 أيار، نرى بأن اللغة الكردية ومع انطلاقة ثورة 19 تموز لاقت فرصة لكي تُمارس في مؤسسات إدارية، ويُدرَّب بها وتُدرّس في المدارس والمعاهد والجامعات.
ونوّه: “لم تكن ثورة 19 تموز ثورة للغة الكردية فقط، بل لكل اللغات في المناطق التي نشأت فيها الثورة بشمال وشرق سوريا، حيث أصبح كل شعب يمارس لغته ويدرسها في كافة مجالات الحياة”.
فالاعتراف بأي لغة كانت، هو حق معترف به وشرعي في جميع المواثيق الدولية، وحول ذلك قال عبد العزيز: “في سوريا الجديدة يجب أن يكون هناك اعتراف لجميع اللغات، ما يعزّز الانتماء الوطني لهذه الشعوب المتنوعة، وهذه تجربة ليست بجديدة، بل متواجدة في جميع دول العالم وبشكلٍ خاص في الدول التي تحتوي على تنوع ثقافي وقومي، ومثال على ذلك، هناك أربع لغات رسمية تُمارَس في سويسرا، وما يقارب الأحد عشرة لغة في جنوب أفريقيا، ما يثبت أن هذا حق مشروع يجب أن يُعطى لمطالبيه”.
وأردف: “فالاعتراف الدستوري باللغة الكردية هو مطلب مشروع للشعب الكردي، يتجدد ويُؤكَّد عليه في يوم اللغة الكردية، كي تكون هذه اللغة رسمية في المؤسسات الرسمية وللتدريس بها والتدريب، إلى جانب اللغات الأخرى مثل السريانية والعربية، وهذا هو المطلب الأساسي في يوم اللغة الكردية”.
وأشار “عبد العزيز”، إلى أنَّ اللغة الكردية قطعت خلال قرابة العشر سنوات أشواطاً كافية في تثبيت جذورها من ناحية التدريس في المدارس والمعاهد والجامعات، وأصبح هناك المئات من المعلمين الذين يدرِّسون العلم باللغة الكردية، والآلاف من الطلاب الذين درسوا بلغتهم الكردية الأم، هناك أيضاً مؤسسة للغة الكردية معنية بشؤونها، تقوم بتوحيد قواعد ومصطلحات وكل ما يلزم لاستمرار التقدم للغة الكردية، مؤكّداً: “هناك أرضية جاهزة لتثبيت هذا الحق الشرعي في الدستور، وهذا ما نأمل به وسنعمل لأجله”.
وفي ختام حديثه شدّد نيجيرفان عبد العزيز: “نحن لا نريد أن تتكرر التجارب السابقة في تجاهل أو عدم تقبل الآخر، لأن ما مرت به سوريا على مدى 14 سنة، من منع السلطة البعثية الشعوب التعلم بلغتها الأم، وذلك على عكس ما يحصل في الدول المتقدمة، حيث الكيان الذي بيده القرار يحاول أن يقوي اللغات التي هُدِّدت بالانقراض المتواجدة في البلد أو الدولة، فيوجد لدينا تنوع ثقافي من شأنه أن يقوي بلد سوريا ويجعله متقدماً، لذلك علينا ألا نتجاهل هذا التنوع ونحافظ عليه ونبينه للعالم ليظهر جمال بلدنا من خلاله”.
بإيجاد الكماليات ستواكب اللغة الكردية ركب التفجّر المعرفي
ومن جانبه هنّأ الكاتب الكردي والمهتم بمعالجة المشكلات اللغوية في اللغة الكردية “برزو محمود” الشعب الكردي بيوم اللغة الكردية، وحضَّ على ضرورة تنمية اللغة الكردية وتطويرها بقوله: “بالرغم إن اللغة الكردية تمثّل الماضي والحاضر الثقافيين للشعب الكردي، إلا أنها بحاجة إلى تنمية حضارية وتخطيط لغوي يهتم بمعالجة المشكلات اللغوية التي نجمت عن غُبن تاريخي وقع على كاهل الكرد، بطمس هويته اللغوية والقومية طوال قرن من الزمان من قبل أربع دول، لذا فإنَّ المرحلة الحالية من تطور للقضية الكردية في العالم، تفرض على المثقف الكردي واللساني التركيز على العمل الجاد والمنظم نحو إيجاد حلول مدروسة لتلك المشكلات اللغوية حسب حجمها ونوعيتها”.
مبيناً: “على أن تُشرف مجموعة من اللسانيّين ذوي الخبرة والمعرفة على التخطيط اللغوي ورسم السياسات اللغوية، ووضع الخطط اللازمة لتنمية اللغة الكردية وتطويرها، وعلم التخطيط اللغوي هو نتاج تضافر جهود علماء عدة ومن حقول متنوعة، كالاجتماع، التربية، الإنسان، الاقتصاد، اللغة، والسياسة، فهو علم يقوم على نظام تكاملي تشترك فيه جل العلوم الإنسانية، لأنه يتعامل مع اللغة واللغة إرث الجميع وليست مُلكاً لأحد”.
وشدّد: “وهكذا فلا بد من تضافر علوم شتى وتعاونها لإنجاح مهمات المخطط اللغوي، الذي يهدف إلى تنقية اللغة من الغرائب والشوائب والدخيل، ومثال ذلك ما حدث للغة الفرنسية عن طريق ما قام به مجمع اللغة الفرنسية من تأليف للمعاجم والمصطلحات، حتى تعاصر اللغة الكردية قافلة التفجر المعرفي، وهذا ما أحوجنا اليوم له وما يتطلّب القيام به تجاه اللغة الكردية ومواكبة البلدان المتقدمة”.
جامعة روج آفا صرح علمي نهضَ باللغة الكردية
وبدوره قال المحاضر في قسم الأدب الكردي وعضو الهيئة الأكاديمية في جامعة روج آفا “داروين داري”، جامعة روج آفا التي تُعدُّ صرح تعليمي وحضاري مهتم بتعليم اللغة الكردية في إقليم شمال وشرق سوريا، ونواة تعليم اللغة الكردية في المنطقة وإعداد وتخريج أجيالاً ممن سيبنون اللغة ويجعلوها أساساً لدى الأجيال، حيث خرَّجت الجامعة كأول دفعة من طلابها العام المنصرم 435 طالباً وطالبةً من عدة فروع، والذين قد درسوا بلغتهم الأم الكردية. حيث أوضح “داري” في بداية اللقاء معه أنَّ الجامعة اتخذت منذ سنة التأسيس عام 2016 قراراً تاريخياً وهو أن لغة التعليم في الجامعة هي اللغة الكردية، ورغم العقبات والتحديات التي واجهتها الجامعة ولازالت تواجهها إلى الآن بسبب هذا القرار وذلك لصعوبة توفير مراجع ومصادر بالإضافة إلى محاضرين يتقنون اللغة الكردية كتابةً، وقراءةً، إلا أنها ماضية في إزالة هذه العقبات، وذلك بتوفير دورات مجانية لتعليم المحاضرين والعاملين للغة الكردية، إلى جانب مشاريع ترجمة المصادر والمراجع، وكانت كلية الآداب واللغات كالأدب الكردي في طليعة الأقسام التي افتُتحت في الجامعة، والتي توليها الجامعة الأولوية إلى جانب بعض الأقسام.
وأردف: “ومما لا شك فيه فإن مسألة اللغة الكردية مسألة حيوية ضمن الإدارة الذاتية الديمقراطية ومنذ بداية تأسيسها، حيث تم تأسيس مؤسسة اللغة الكردية في عدة مدن وبادرت إلى إعداد المعلمين للغة الكردية من خلال افتتاح دورات تعليمية للغة، وأدخلت اللغة الكردية في المدارس والتي جعلت منها إحدى المحاور الأساسية في كافة نقاشاتها سواء في عهد النظام السوري السابق أو الحكومة السورية المؤقتة الحالية الأمر الآخر وهو الدعم الكبير لوسائل الإعلام باللغة الكردية سواءً المرئية أو المقروءة”.
في ختام حديثه بيّن داروين داري أنّه للحفاظ على اللغة الكردية وتطويرها يزداد دور معلم اللغة الكردية أهمية، وذلك لما تواجهه هذه اللغة من تحديات على صعيد المستويين الثقافي والسياسي، ولهذا عليه السعي في تعليم الأطفال الذين هم اللبنة الأولى في بناء جيل مُدرك مدى أهمية لغته، والتي هي جزء لا يتجزأ من هويته الثقافية وليست فقط وسيلة للتواصل.
المعلّم هو باني مستقبل الجيل الكردي ولا سيما الأم
كما وكان لنا استطلاع رأي لإحدى مدرسات اللغة الكردية في قامشلو، للمختصة بتدريس اللغة الكردية “مزكين أوسي”، حيث تُعد المعلمة أيضاً من أعمدة بناء وتطوير اللغة الكردية من خلال تعليمها للأجيال الناشئة، وتماشيهم منذ بادية تعليمهم حتى تترسّخ هذه اللغة في أذهانهم عن طريق مختلف الأنشطة في المدارس.
وبعد تهنئتها للشعب الكردي بشكل خاص بيوم اللغة الكردية، قالت مزكين: “اللغة الكردية تشكل جزءاً جوهرياً من هوية الشعب الكردي، وتسهم في توطيد العلاقات بين الأفراد داخل المجتمع الكردي، وتعزّز شعور الانتماء والتضامن، كما أن الاعتراف باللغة الكردية وتعلمها وتعليمها يعد جزءاً من حقوق الإنسان الأساسية ويعبّر عن احترام التنوع الثقافي واللغوي”.
وعن واجبهم كمدرسين للغة الكردية أوضحت مزكين: “بعد تأسيس الإدارة الذاتية عام 2014 تم إدخال اللغة الكردية كلغة تدريس في المدارس الواقعة ضمن مناطق سيطرتها، كذلك أُنشِئت معاهد وتدريب المعلمين باللغة الكردية، وجرى تطوير مناهج تربوية كردية مخصصة لمختلف المراحل التعليمية تراعي الثقافة والهوية الكردية، فإنَّ واجب المدرسين هو تطوير هذه اللغة وتقويتها ودعم المبادرات التي تدعو إلى الاعتراف الرسمي بها واستخدامها في المجالات العامة والتعليمية”.
مضيفةً، أنَّ الأم أيضاً بدورها تُعد المعلمة الأولى في تعليم اللغة، حيث تعليم نطق الحروف والكلمات الأساسية والمفردات باللغة الكردية يساعد في تمكين الطفل لغوياً، من خلال تحدّثها مع أطفالها وغنائها لهم في مرحلة الحضانة بشكلٍ خاص، ما يضمن استمرار اللغة وانتقالها من جيلٍ إلى آخر.
ونوَهت مزكين: “كوني مدرسة للغة الكردية، فإن يوم اللغة الكردية لا يعد مجرد احتفال سنوي، بل تذكير يومي بمسؤوليتنا الجماعية تجاه لغتنا وهويتنا، أشعر بالفخر لأنني أساهم في بناء جيل يتحدث بلغته الأم بثقة واعتزاز رغم التحديات التي تواجهها هذه اللغة، ورسالتي في هذا اليوم: فلنعلم أبناءنا لغتهم ولنقرأ ونكتب بالكردية فهي أمانة في أعناقنا للأجيال القادمة”.
الاعتراف باللغة الكردية حق شرعي لشعب عريق
واختُتِم تقريرنا بلقاء مع عضو مؤسسة المناهج بقسم اللغة الكردية “بشير سليمان”، والذي بارك بدوره أيضاً للشعب الكردي العريق بيوم اللغة الكردية، وأوضح أنَّ لمجلة هاوار التي أُصدِرت باللغة الكردية كأوّل مرة كان لها دور فعال في نشر قواعد اللغة الكردية في عموم سوريا والمناطق الكردية بشكلٍ خاص، وأنَّ نتائج إصدار هذه المجلة أثمرت بحلول ثورة التاسع عشر من تموز. حيث دُرِّسَت هذه اللغة في المدارس بشكل رسمي، وأصبحت لغة رسمية للمنطقة مع اللغتين العربية والسريانية، لتؤكد أنها أصبحت منبراً ينادي بالتعددية.
واختتم عضو مؤسسة المناهج في قسم اللغة الكردية “بشير سليمان”: “نطالب من منبركم أن تتحول هذه اللغة إلى لغة معترف بها في الدستور السوري، الذي نتمنى أن يشرف على صياغته جميع الشعوب في سوريا والمنطقة، وأن يُعترَف بهذه اللغة في كافة الأراضي السورية لعراقتها وتجذرها في تاريخ سوريا”، مضيفاً: “ونبارك للجميع بهذا اليوم العظيم، ونتمنى أن يعم فيه السلام لجميع السوريين وأن تكون اللغة هي لغة السلام والسائدة فوق لغة العنف والحروب”.