د. جاويدان كمال
شهدت ولاية “ترامب” الأولى أحداث مأساوية بالنسبة للكرد في سوريا؛ كالانسحاب الأمريكي الجزئي من شمال وشرق سوريا والسماح لتركيا باحتلال “سري كانیه وكري سبي” ومن قبلهما عفرين، والتي كانت تعتبر ضمن منطقة النفوذ الروسي بتفاهم أمريكي روسي حينها (جون كيري/ لافروف) وتقسيم سوريا لمنطقتي نفوذ روسيّة غرب نهر الفرات وأمريكية شرق الفرات)، ما يؤدي بالنتيجة إلى تولّد حالة من القلق في روج آفا بعد نجاح ترامب ووصوله لسدة الحكم في واشنطن.
يجدر القول هنا إن العالم بأسره يشهد حالة القلق هذه بما فيه الشارع الأمريكي الذي لم ينسَ ما قام به ترامب وأنصاره بعد هزيمته في الانتخابات السابقة أمام جو بايدن وهجومهم على مبنى الكابيتول، الأمر الذي وضع العالم بأسره في حالة صدمة تامة.
تلك النظرة المعروفة عن أسلوب ترامب البراغماتي وتسخيره نفوذ أمريكا لصالح الفائدة الاقتصادية بشكلٍ مباشر وآني دون التعمق بالنتائج والتداعيات؛ قد تكون صحيحة تماماً في قراءة مرحلة رئاسته الأولى، إلا أن ظروف الشرق الأوسط والعالم أجمع الآن ليست متطابقة مع الظروف التي رافقت فترة حكمه الأولى.
لم تكُن الحرب الروسيّة الأوكرانية قد بدأت حينها، وكانت تركيا تحقق أكبر فائدة من التواجد القوي لروسيا كنوع من ممارسة الضغط على أمريكا للرضوخ لمطالبها في سوريا.
الولايات المتحدة كانت على استعداد لتقديم الكثير من التنازلات لتركيا بغية منع انجرارها مع الحلف الروسي الصيني، إلا أن الحقيقة الآن مختلفة؛ فروسيا تبحث عن حل لمعضلة حربها مع أوكرانيا وتبحث عن صفقة تحفظ لها ماء وجهها، وقد شهد ترامب التعاطف العالمي مع “روج آفا” وأُجبرت تركيا حينها على وقف توغلها في الشمال الشرقي السوري، وتم إيقاف الانسحاب الأمريكي تحت ضغط الرأي العالمي، إضافة لذلك بدعوته لقائد قوات سوريا الديمقراطية “مظلوم عبدي” لزيارة واشنطن حينها ما قد يجعل ترامب يفكر كثيراً بحجم الضغوطات التي سوف يتعرض لها إذا ما سمح لتركيا بشن هجمات جديدة خارج أراضيها، ما يعني عملياً إخراج أمريكا من المعادلة السوريّة تماماً، ما قد يعرِّض مشاريعها ومشاريع أوروبا فيما يخص موارد النفط والغاز للخطر، وكذلك أمن إسرائيل التي تحاول ويهمها وجود منطقة جغرافية عازلة تمتد من بداية الحدود السورية التركية مروراً بالحدود السوريّة العراقية والأردنية ولبنان لمنع التمدد الإيراني وقطع خطوط إمدادها لحزب الله وحماس، وما قد تظهر من قوى وحركات جديدة بعد الانتهاء من حربها ضد كليهما وكذلك قطع إمدادات تركيا للمجموعات التي قد تعارض مشاريع إسرائيل.
مع استمرار الحرب الروسيّة الأوكرانية وتوسُّع رقعة الحرب في الشرق الأوسط وتدهور حالة تركيا على المستوى الدولي والداخلي وفقدانها لورقة الضغط الروسي الذي قد يرضى بتفاهمات جديدة في سوريا لحل مشكلة حربها الأوكرانية وخلافاتها مع الناتو، بالإضافة لوجود خُطط اقتصادية جديدة في الشرق الأوسط، تبرز القضية الكردية على الخارطة الجيوبوليتيكية وبقوة هذه المرة مع الدور الإيجابي الذي لعبه الكُرد في الحرب ضد القوى الإرهابية والنموذج الذي قدموه في روج آفا.
قد يُخطئ أردوغان مجدداً ويحاول حرق المنطقة لاستعادة أوراق القوة التي كان يمتلكها سابقاً، كتحريك العصابات الإجرامية الموجودة في “إدلب وعفرين وسري كانيه وتل أبيض” تحت اسم المعارضة السوريّة، وربما محاولة احتلال مناطق جديدة في سوريا بهدف الضغط على روسيا وأمريكا للحفاظ على دورهما في ظل التفاهمات الأمريكية الروسية الأوربية والاسرائيلية الجديدة، فقد اعتادت القوى الدكتاتورية عدم قبول التغيير، لكن المعطيات كلها تشير إلى أن تركيا لم تعد الفاعل الرئيسي في الشرق الأوسط، ولم يعد أردوغان يمتلك تلك القاعدة الجماهيرية الكبيرة في تركيا مع تراجع الوضع الاقتصادي والإنساني فيها.
تجربة الإدارة الذاتية في شمال وشرق سوريا قدّمت الكثير من التضحيات مع وجود قوات سوريا الديمقراطية الداحرة للإرهاب وطرحهم لمشاريع حل حقيقية للمعضلة السوريّة ككل، والسعي لبناء سوريا لا مركزية تضمن حقوق كل الشعوب يجعل حضور هذه الإدارة في تزايد مستمر ضمن التفاهمات الدولية.
كان الأجدر بتركيا وأردوغانها والأمر سيّان بالنسبة لنظام بشار الأسد أيضاً قراءة معطيات هذه المرحلة والسعي لإرساء السلام مع الكُرد وباقي شعوب المنطقة بما يضمن حلاً ديمقراطياً عادلاً يحقق مصالح شعوب المنطقة ككل.
فقد عانت سوريا وتركيا وإيران والعراق من أنظمتها العنصرية الحاكمة، وإذا لم يتداركوا الموقف وتصالحوا مع حقيقة الشرق الأوسط وضرورة الوجود الكردي ونيله لحقوقه؛ فقد يجرّون المنطقة لويلات أكبر ستكون نتيجتها نهاية حقبتهم وبدءِ مرحلةٍ جديدة بحضور كُردي فاعل في خريطة الشرق، هذا إذا ما أكمل الكرد ما بدأوه منذ انطلاق ربيع الشعوب وتكاتفوا وتلاحموا أكثر فأكثر.
