د. علي أبو الخير
التطرف الديني في الغالب /إذا جاز لنا التشبيه/ هو ابن فاسد لتفسير قاصر، من رجل دين يناقض النص الديني المقدس، ورجل الدين هذا يقدم تفسيره لخدمة الوالي أو السلطان أو الملك أو الأمير، مهما كانت المسمّيات، والفقه والعلم يسندان النهضة؛ لأن الفقه والعلم، جناحان لدور حضاري، هذا إذا صدقت النوايا، وللأسف هي قليلاً ما تصدق.
والعلم الحقيقي هو الذي ينبذ التطرف والمغالاة، والنهضة الإسلامية لم تنتقل لأوروبا من خلال كتب الفقهاء ورجال الدين، ولكنها انتقلت من علوم ابن رشد والفارابي والخوارزمي وابن سينا وغيرهم، وهؤلاء كانوا فلاسفة وأطباء وفقهاء في الوقت ذاته، أي أن النهضة لابد أن تكون علمية لصيقة بالفكر الديني الأصيل العادل.
العلم والفقه عند المفكر عبد الله أوجلان
نستطرد فنقول إن ثورات الشعب الكردي كلها ثورات شعبية تنشد الحرية، ولا تستغل الدين من أجل الثورة، ولم تنافس من أجل الغنائم المالية، ولكنها ثورات روحية إنسانية مثالية، تحتاج لمقالات وكتب كثيرة ومتعددة.
والنموذج الذي أمامنا هو حزب العمال الكردستاني، فالحزب ثار على الظلم التركي بدون اتخاذ تفسير الدين لصالحه، وكان يمكن للقائد عبد الله أوجلان أن يفعل، ولكنه صادق مع نفسه ومع شعبه، اتهمه الأتراك بالشيوعية، لأنه انحاز للعدل، ولكنه مضى في طريق الضمير من أجل الحرية الإنسانية، ولم يستغل المنابر لخدمة مشروعه الثوري، ولقد رضي بالسجن من أجل خدمة الكرد والإنسانية جميعاً بمشروعه حول الأمة الديمقراطية، التي لا ننفك نكتب عنها ونُبشر بها، وهنا نكتب عن العلاقة بين المنبر والحكم السلطاني.
بين المنبر والسلطة
توجد علاقة طردية بين المنبر والسلطة، في كل الأديان، ولكننا نكتب عن السلطة والمنبر عند المسلمين، والعلاقة الطردية تعني أنه كلما زادت السلطة استبداداً، زادت المنابر سخونة للدعاء السياسي للمستبد السلطوي القديم، ثم الجديد، وعلينا الاعتراف بأنه مهما كتب الكتّاب وألّف المؤلفون، لا يكون لهم تأثير مثل تأثير الخطب المنبرية، لأنها تحدث العوام وتؤثر فيهم وتملك ناصيتهم.
والمفترض أن منابر المساجد وسيلة لتحقيق الأمن، ونشر ثقافة التسامح والإخاء والمساواة، وتجديد النشاط الروحي، خاصةً أن المسلم يذهب لصلاة الجمعة كل أسبوع، حتى تتحقق الغاية الإيمانية من الخطبة والصلاة، والمفترض أن خطبة المنبر توحد جهود الأمة، خاصةً وأن الخطباء من فوق ملايين المنابر لا ينفكون يرددون الآية 92 من سورة الأنبياء “إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدونِ”، وكذلك الآية 52 من سورة المؤمنون “وإن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاتقونِ”، ولكن الوحدة لم تتحقق أبداً، رغم أن شرعية الخلفاء تزداد عندما يُخطب لهذا الخليفة أو ذاك من فوق المنابر، ولكنها شرعية السيف واستغلال الدين برمزه المنبري.
والواقع العملي على مدار التاريخ الإسلامي، هو أنه تحولت المنابر لأبواق سياسية دعائية، وهوس مذهبي أحدث التفرق والتشرذم والحروب الأهلية من أجل الحكم، فتعددت الدول وتعدد الخلفاء، وتفرّق المسلمون، والمنابر تماثل الفضائيات والميديا بوجه عام في العصر الراهن.
إن المنبر كان هو الجهاز الإعلامي الحكومي الموجه في الزمن القديم، ولقد حدث استخدام سياسي كريه للمنابر، كرّس فيه الخلفاء والسلاطين والأمراء والملوك الاستبداد السياسي باسم الدين، وعندما تقوم دولة بعد أن تسقط دولة، يكون المنبر هو الجهاز الإعلامي للحاكم الجديد، وعندما يتعدد الخلفاء تتعدد المنابر بميولها وأهوائها وخطبائها، لدرجة أن قال ابن حزم الأندلسي الظاهري متحسراً في كتابه “الفصل في الملل والأهواء والنحل”: “فضيحة لم يقع في الدهر مثلها، أربعة رجال في مسافة ثلاثة أيام، يسمى كل واحد منهم بأمير المؤمنين، ويخطب لهم في زمنٍ واحد، أحدهم في إشبيلية والثاني بالجزيرة والثالث بمالطة والرابع بسبته”، والغريب أنا ابن حزم الأندلسي تحسّر على الفرقة بين المسلمين، ولكنه لم يتحسر على الاستبداد باسم الدين.
لقد بدأ التأريخ المزيف أكثر علانية وصلافة منذ صعود الخلافة الأموية ثم العباسية، ودام الأمر في العلاقة الملتبسة بين المنبر الديني والسلطان السياسي في العصر العثماني، وما بعده حتى اليوم.
شرعيّة المنابر السياسية
من فوق ألف منبر ومنبر تأتي شرعيات حكومية زائفة، وخطب منبرية مشوهة، ومن يراقب الأمور في كل البلاد الإسلامية، يجد المنابر المؤثرة على نشر الفكر التكفيري الدموي الإرهابي الوهابي الداعشي البوكو حرامي تحض على الكراهية والعنف والقتل والسبي.
أما منابر من يسمّون أنفسهم معتدلين أو ما يقولون عنه إسلام وسطي، فالخطب أبداً لا تُحرِك روحاً ولا تملأ نفساً بالإيمان، ولا تروى عطش الظامئين للحرية، وبالطبع هذه الخطب المنبرية لا تجدد ولا يمكن أن تجدد جملة دينية وليس خطاباً دينياً كاملاً.