سوزدار رزكار (صحفية)
قبل ثلاث سنوات، كتبت مقالاً بعنوان: “عندما تبحثون عن الجمال… ابحثوا عنه بين صفوف الكريلا”، واليوم أكرر المقولة ذاتها، مع إضافة جديدة: حين تبحثون عن السلام، حين تفتشون عن الحرية، اختصروا الطريق وتوجهوا إلى أرض الطهارة… إلى جبال كردستان، حيث سُقيت الأشجار بدماء الشهداء، فأنبتت كرامة ومقاومة.
هذا المقال ليس كسابقيه؛ فأنا أخشى أن تخونني الكلمات في وصف عمق هذه التجربة، أن أعجز عن الإحاطة بما قدمته هذه الحركة من تضحيات، وما جسّده شهداؤها عبر خمسين عاماً من النضال والكفاح، إلا أنني سأحاول أن تلامس كلماتي جوهرها الحقيقي.
ظهور حزب العمال الكردستاني شكّل بداية فصل جديد في التاريخ الكردي، لم يكن مجرد حزب، بل كان مشروعاً لبناء حرية وديمقراطية، لا للكرد وحدهم، بل لكل الشعوب المضطهدة. وُلدنا على حب هذه القضية، نشأنا على عشق الحرية، وكبرنا على فكر جعلنا نعتز بأننا من كردستان، مهد الحضارات والثقافات.
حين انطلقت قفزة 15 آب، لم يكن عدد مقاتلي الكريلا يتجاوز الخمسين مقاتلاً، معظمهم من طلاب باكور كردستان، اليوم، تجاوز عددهم عشرات الآلاف، من مختلف أجزاء كردستان الأربعة: باكور، باشور، روجهلات، وروج آفا، وقد انضم إليهم عرب وأتراك وإيزيديون وأرمن ومسيحيون، سنّة وعلويون، وحتى أمميون من دول مختلفة، وانطلقت المسيرة من بنادق بسيطة، وصولاً إلى أكاديميات عسكرية مزودة بأحدث التقنيات.
جبال كردستان لم تكن يوماً مجرد جغرافيا أو مواقع للقتال، بل تحولت منذ التسعينيات إلى أكاديميات فكرية، تستند إلى فكر القائد عبد الله أوجلان في بناء حياة حرة، أخلاقية، وطبيعية، هناك تأسست معالم الحضارة، وتطورت مفاهيم اللغة والفن والثقافة والعدالة والحرية والهوية.
تاريخ هذه الجبال وسفوحها، وأنهارها وتربتها، كلها شاهدة على مقاومة قوات الدفاع الشعبي ووحدات المرأة الحرة – ستار، في وجه الاحتلال التركي. معارك حفتانين، آفاشين، قنديل، زاب، شمدينان، برادوست، وغيرها، حُفرت في الجغرافيا والذاكرة معاً، وأصبحت منارات للأحرار.
المرأة الكريلا، في ذرى الجبال، جسدت البطولة والفداء، كانت آلهة للحياة، تحولت إلى آلهة للحرية. كل خصلة من شعرها، كل أثر لخطاها، يسجل للتاريخ قصة مقاومة وجمال وإيمان لا يُقهر.
هذه المقاومة هي التي منحتنا القدرة على الوجود، لولاها، ولولا إيمانها وإصرارها، لما كانت ثورة روج آفا، ولا تلك الروح العالية التي استمدتها من فكر القائد عبد الله أوجلان وفلسفة الحياة الحرة.
لكن، لا بد من طرح سؤال محوري: بعد كل هذه السنوات من الحرب، ماذا حققت الدولة التركية؟ هل استطاعت القضاء على الكريلا؟ هل أنهت وجودهم؟ هل أضعفت عزيمتهم أو طمست قضيتهم؟ الحقيقة واضحة: الفشل هو نصيبها، والمقاومة مستمرة.
ينطبق على تركيا المثل القائل: “المهزوم لا يمل من المصارعة”. وما تحقق اليوم من انتصارات كفيل بالإجابة.
نداء السلام
في مذكراته، يقول القائد عبد الله أوجلان: “موقفي واضح: أنا مستعد وكأن اتفاق السلام سيتحقق غداً، وكأن حرب الإبادة ستبدأ غداً، سأواجهها حتى النهاية بإيمان وتصميم”.
وفي 27 شباط 2025، أطلق نداءً تاريخياً بعنوان “دعوة من أجل السلام والمجتمع الديمقراطي”، مؤكداً أن الحاجة لبناء مجتمع ديمقراطي باتت ملحة، وأوضح أن حزب العمال الكردستاني، رغم الحصار، بات أقوى، لأنه كان صوت من لا صوت لهم.
لم تكن تلك الدعوة الأولى للسلام، فقد أطلقها القائد عبد الله أوجلان مراراً منذ عام 1993، وأكد أن تحقيق السلام أصعب من الحرب، لكن كل حرب في النهاية لا بد أن تنتهي بالسلام الحقيقي.
استكمالاً لهذا المسار، عقد الحزب مؤتمره الثاني عشر الطارئ بين 5 و7 أيار في مناطق الدفاع المشروع، وأعلن عن إنهاء الكفاح المسلح، وبدء مرحلة جديدة نحو السلام، هذه الخطوة حظيت باهتمام واسع من الإعلام العربي والدولي، وأبرزت أهمية التحول نحو الحل السياسي.
من هنا، على الدولة التركية أن تتحمّل مسؤولياتها، فالتاريخ لا يرحم المتقاعسين. إن بناء السلام هو مفتاح حل أزمات الشرق الأوسط، ولا يمكن تجاهله أو تأجيله.
ومن هذا المنطلق يكفينا أن نتذكر أسماء بعض من ضحوا: زيلان، بريتان، شيلان، سما يوجا، مظلوم دوغان، علي جيجك، خيري دورموش، علي حيدر كايتان، ورضا ألتون وآلاف غيرهم. هؤلاء لم يكونوا أسماء فقط، بل قناديل أضاءت درب النضال.
حزب العمال الكردستاني، حزب الشهداء والتضحية، سيبقى كما كان دائماً… “إله الحياة”، بمبادئه الإنسانية، وصوته الذي ما انفك ينادي بالسلام والحرية.