رفيق إبراهيم
إن من أكثر الملفات الساخنة والمعقدة في الأزمة السوريّة، ما يجري الحديث عنه بتطبيع بين أنقرة ودمشق، وعلى الرغم من تضخيم المسألة إعلامياً وبخاصةٍ في الإعلام التركي، في الحديث عن عقد لقاء قريب بين أردوغان وبشار الأسد، لكن كل المعطيات التي نراها على أرض الواقع تؤكد عكس ما يُقال، وهذا ما يتحدث به كل الخبراء والمتابعين لشأن المنطقة.
وأي حديث عن التطبيع بين الطرفين يجب أن يسبقه حُسن نوايا من الجانبين، وعلى كليهما تقديم تنازلات للآخر على الرغم من تعارضها في العديد من الأحيان مع مصالحهما، وحتى الآن لم نرَ أي تقدّم في هذا الجانب، وهذه من الأمور التي تُعقد طريق التصالح بين سوريا وتركيا، وكل من دمشق وأنقرة ترى بأن هناك قضايا جوهرية لا يمكن التنازل عنها تحت أي ظرف كان.
إن شئنا أم أبينا لتركيا دور كبير في الأزمة السوريّة، ولكنها لعبت دوراً سلبياً منذ بداية الأزمة في العام 2011، ولها حدود طويلة مشتركة مع سوريا، وهي الدولة التي دعمت ما سُميت بالمعارضة السوريّة التي تبنت نهج الإخوان المسلمين، وسارت على خُطى أردوغان وتبنت نهجه، حيث تدخّلت تركيا في كل شاردة وواردة واستخدمتهم لتحقيق الأجندات الخاصة بها في سوريا.
وتركيا بتدخّلها العسكري في سوريا، زادت الطين بلة، وهي التي قامت بأربع هجمات على الأراضي السوريّة منذ العام 2015، احتلت من خلالها الباب وإعزاز وعفرين وسري كانيه وكري سبي، بتوافق دولي وإقليمي، وليس هناك أي داعي للدخول في التفاصيل المعروفة من قبل الجميع، واليوم تمتلك تركيا عشرات القواعد العسكرية على الأراضي السوريّة، وهي التي تُهيمن على القرار العسكري والسياسي لما تُسمى المعارضة التي تتخذ من تركيا مقراً لها.
ولعل من أبرز الأهداف التركيّة من خلال تدخّلها العسكري في سوريا، كما يراها المراقبون، وليس كما تدّعي هي، وتذرعها بحماية أمنها القومي ومحاربة الإرهاب، هي محاربة الإدارة الذاتية واحتلال مدن جديدة في أماكن تواجدها، والكل يعلم بأن تركيا لم تهاجم يوماً المجموعات الإرهابية، بل على العكس تماماً مولتها ودعمتها وساندتها واستخدمتها لتحقيق مصالحها في سوريا والمنطقة بشكلٍ عام.
والأمر الآخر هو أن تركيا تحاول دائماً الوقوف في وجه تقدّم الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، وإعاقة مشروعها الديمقراطي في المنطقة، لأن أي مشروع ديمقراطي في المنطقة لا يخدم أجنداتها التوسعية في المنطقة، لذا تبحث دائماً في كيفية ضربه وهجماتها على البنى التحتية خلال الشهور الماضية تؤكد قولنا هذا.
والأمر الآخر الهام هو أن تركيا وعبر احتلالها للعديد من المدن السوريّة، تحاول أن تضمن لنفسها مكاناً في أي حل سوري قادم، وأن يكون دورها محورياً في ذلك، ومن خلالها لعب دور في منطقة الشرق الأوسط بشكلٍ عام، واستخدامها كورقة ضغط على القوى الكبرى كالولايات المتحدة والدول الأوروبية والتحالف الدولي، وأيضاً علينا ألا ننسى مساعي تركيا الاقتصادية وضمان مكاناً لها بين الدول التي ستُساهم في إعادة الإعمار بعد إيجاد الحلول النهائية للمعضلة السوريّة.
ومما لا يقبل الجدال أن هذه الأهداف التركية في سوريا، تتعارض مع تطلعات الشعب السوري، وحتى أن النظام في دمشق، لا يقبل بها بأي شكل من الأشكال، وبخاصةٍ فيما يخص احتلال تركيا للأرضي السوريّة ووجوب خروجها منها، وهذه الجزئية مثار خلاف واختلاف جوهري عليها، ودمشق أكدت مراراً أنها لن تقبل بأية مفاوضات جديّة ألا بخروج تركيا من أراضيها المحتلة.
حكومة دمشق من جهتها، ترى بأن أية عملية تطبيع مع أنقرة لا بد من توفير عدد من النقاط التي يجب الاعتماد عليها، وبالدرجة الأولى وكخطوة أساسية للجلوس على طاولة الحوار، يجب خروج تركيا الغير مشروط في المدن السوريّة المحتلة، ويتبعها إزالة كل القواعد التركية المتواجدة على الأراضي السورية.
أما الأمر الثاني تطالب دمشق أنقرة باعتبار المجموعات الموالية لها “كتنظيمات إرهابية”، والعمل معاً على محاربتها والتخلص منها، وأيضاً بسط سيطرتها على مناطق نفوذها وتسليم المعابر الحدودية لقوات حكومة دمشق، ووقف الدعم السياسي والعسكري عما تسمى المعارضة السورية، وتفكيك المجاميع المسلحة التابعة لها، وإجبارها على المصالحة مع دمشق، ضمن الشروط التي ستفرضها حكومة دمشق، وأيضاً حكومة دمشق تريد اعتراف تركيا بها على الحالة الراهنة على أنها القوة الشرعية الوحيدة في سوريا.
ومن خلال هذه المقاربة البسيطة لشروط البلدين في التطبيع، نرى بأن المصالح التركية، وشروط النظام السوري للتصالح بين الجانبين يتنافران، ما يؤكد أن عملية التطبيع تواجهها تحديات جمّة، على الأقل في الظروف الحالية والمستقبلية القريبة، وخصوصاً أن دمشق مُصرّة على تنفيذ تلك الشروط، المرفوضة أصلاً من قِبل تركيا، ومن هنا نقول: إن التصريحات عبر وسائل الإعلام من قبل المسؤولين الأتراك، لا تتجاوز التصريحات السياسية المستهلكة إعلامياً فقط، وهذا ما يؤكد أنه ليس هناك جدية لدى الطرفين بخوض الحوار في مسألة التقارب بينهما.
وقد يسأل سائل عن إجراء العديد من اللقاءات الأمنية والاستخباراتية بين الطرفين، وهنا نقول بأن هذه اللقاءات ومنذ بداية الأزمة لم تنقطع يوماً، وهي ما زالت قائمة حتى اليوم، وهي تأتي في سياق عمليات التنسيق الأمني والاستخباراتي بين الدول، ولهذا لم تحدث أية خروقات لمسار التطبيع، وحتى اللقاء الذي جرى في موسكو برعاية روسيّة بين وزيري خارجية الدولتين، منتصف العام الماضي، لم يحدث أي تقدم في مسار التقارب بين البلدين، لأن كل ما جرى في اللقاء لم يتعدَ حدود الشروط والمطالب.
وبالمحصلة، وبالاعتماد على كل ما سبق، علينا أن نُسلم بأن أي تقارب وتطبيع بين النظامين السوري والتركي، في ظل هذه الظروف والشروط المُعقدة بين البلدين، غير ممكنة التحقيق لا الآن ولا في المستقبل القريب، لأن الهوّة الكبيرة بين الطرفين وحجم المشاكل العالقة بينهما كبيرة، بحيث لا يمكن الاتفاق عليها بين ليلة وضحاها، إلا اللهم في الجزئية التي تتعلق بمحاربة الإدارة الذاتية لإقليم شمال وشرق سوريا، فهناك اتفاق سابق ولاحق لضرب مكتسبات شعوبها والمحاولة الحثيثة في خلق الفوضى وضرب الاستقرار والأمن، الذي تعيشه هذه الشعوب، وهذا هو الهدف الأساسي والأول لتركيا الفاشية.