العشائرية والمجتمع

أحمد شعبان_

مع بداية تشكّل المجتمعات ولحماية البشر أنفسهم قاموا بتحالف عدة أُسر مع بعضها البعض لينشأ ما يُسمى القبيلة أو العشيرة، وكان جُلهم أو أغلبهم في البادية والأرياف البعيدة المترامية الأطراف عن المدينة، وللقبيلة أو العشيرة شخصاً أو مجلس يقودها.

 وتشبه العشيرة أو القبيلة نوعاً ما نظام السلطة أو الدولة، فهناك شخص قائد يحكم ومن الممكن أن يكون معه عدة وجهاء يستشيرهم، وأيضاً يكون عندهم عدة أشخاص يحملون السلاح، ويتغير هذا السلاح من فترة إلى أخرى ممكن أن يكون من الخشب أو الحجر أو المعدن أو البنادق في العصر الحديث.

وهؤلاء تتعدد أسمائهم من فترة إلى أخرى، ومن منطقة إلى أخرى، ونستطيع أن نشبههم بالشرطة وهم يأتمرون بأوامر الشيخ أو العمدة أو مجلس وجهاء العشيرة، لتنفيذ أي حكم يصدر منهم على أي شخص من ضمن هذه القبيلة أو العشيرة، ومع توسّع المدن والهجرة التي قام بها أبناء الريف والبوادي تجاه المدن، ومع توسيع سلطات الدولة، بدأت صلاحيات العشيرة أو مبادئ سريان قانون العشائرية تخِف، ويصبح تطبيقه على دائرة ضيقة، وأصبحت قرارات العشيرة أو القبيلة غير ملزمة، وتنصل الكثيرون منها، وطبقها القِلة وبشكلٍ محدود وذلك لانتشار القوانين ومبادئ العُرف الاجتماعي وتوسيع سلطات الدولة التشريعية والتنفيذية والقضائية، ولتطور حركة المجتمع الاقتصادية والعمرانية والثقافية والسياسية، ولكن بقي للدولة صلاحية التعامل مع نظام العشائر والقبائل بحسب نظام سلطة الدولة، إن كان ديمقراطي برلماني أو سلطوي ودولتي وخاصةً في الدول الشرق أوسطية.

فتارةً تعمُّ وتنتشر ظاهرة التعلّق بالعشيرة والقبيلة وتارةً تخفُّ، وتقيّد صلاحيات العشيرة والقبيلة وذلك حسب مصلحة الدولة أو سلطة الحكم.

إذا تكلمنا عن نظام الدولة الديمقراطي والبرلماني؛ فإن العشيرة أساس التشكيل بالمجتمع ولها أسبقية تشكيل الحكم وساهمت العشيرة بحل العديد من المشاكل والحد من الاقتتال وسفك الدماء وضبط الحدود وقضاء الديون، وهم مواطنين من هذا البلد لهم حقوق وعليهم واجبات، وهذا الشيخ الذي يتولاهم هم مُجمِعون على أن يحكمهم، وفقاً لشريعتهم ومبادئهم، وهذا الشيخ يكون ذو باع طويل في التحكيم واقتضاء الحقوق لأصحابها، ومنهم من يكون لديه كما يُقال “الحاسة السادسة” في معرفة الجاني أو كما يقال باللهجة العامية (العايل).

وأيضاً في العصر الحديث أحياناً يطلب القضاة معرفة بعض “العرف” أو ما يتعارف عليه أهل العشيرة أو القبيلة من الشيخ أو الوجيه لهذه القبيلة أو العشيرة.

أما إذا أردنا أن نتكلم عن الدولة القمعية أو السلطوية فهي تستخدم القبيلة أو العشيرة والشيوخ تنفيذاً لمآربها، ولتحقيق مصالح هذه الدولة بالانصياع والانقياد لها ولما تريد تنفيذه وتطبيقه، فتقوم هذه الدولة أو السلطة بتعيين شيخ ينفذ ما تطلبه، ولا يهمها من العشيرة أو القبيلة سوى الاسم، ولا تساعدهم بأي شيء ولا تعطيهم أي سلاح إلا لتنفيذ أوامرهم وتمكين حكمهم والانصياع لهم، وهذا الوجه الثاني هو الذي انتشر في غالبية دول الشرق الأوسط، ودول أفريقية، مع بث بعض الجهل بين صفوف العشائر والقبائل والمساهمة في انتشار القتل والثأر وحماية السلطة لبعض المجرمين تحت ستار العشيرة.

ونتكلم هنا عن العصبية والتعصب للقبيلة أو العشيرة، سواء على الحق أو على الباطل ولماذا يُصبغ طابع الجهل على من ينصاع للقبيلة من قبل المجتمع وخاصةً المجتمع المدني.

لا ينكر أحد ما يقوم به بعض الشيوخ والوجهاء من اختراق لعقول أبناء العشيرة والسيطرة عليهم، وبأن ما يقوله هو الصواب، حتى ولو كان على قطع رأسه لأنه تربى ونشأ على ذلك، ومنهم من يسافر أو يتنقل بحسب عمله بين مكان وآخر، ولا ينطق إلا ما علمه الشيخ أو ما سمعه من الشيخ، فيقول هكذا قال شيخنا وهذا ما سمعته من شيخنا، فهنا الانصياع والتسليم الكامل وغياب إرادة وحكمة وعقل هذا الشخص، وهو الوجه السلبي للعشيرة بأنها سلبت إرادة وعقلية مثل هؤلاء الأشخاص.

وتكون نظرة المجتمع المدني والمتمدن لمثل هؤلاء الأشخاص بأنهم جاهلين، وأيضاً من يحكمهم بالجاهل، وأيضاً انطواء العشيرة على نفسها وعدم مواكبتها للتطور وأساليب التقنية يجعل الجميع يصفها بالجهل.

أما الوجه الإيجابي فهو بأن تكون القبيلة منفتحة على الجميع ومتطورة، ولديها أساليب من العصرانية تجعلها أكثر ديناميكية وتأقلم مع المحيط، وتقوم بتثقيف أبنائها وهي كما ذكرنا منذ نشأة المجتمعات وأساس الدولة بشكلها المصغر.

إن الاحتكام للعشيرة وقوانينها شيء جميل جداً، إن كانت هذه القوانين لصالح المجتمع ولتطوره وخدمته ولمساندة الدولة بالتخفيف عن القضاء والسلطات، بحل بعض الأمور بشكلٍ ودي وسلمي وتصالحي.

علينا جميعاً نشر ثقافة التعايش المشترك والاحتكام للصلح وتقوية أي روابط أو تجمعات منظمة ومبنية على أسس سليمة وسلمية، سواء عشيرة أو قبيلة أو لجنة صلح أو مجلس وجهاء، بهذا ترتقي المجتمعات وتتحضر وتخرج من قوقعتها وتواكب الجميع بالتطور والحداثة.