د. أمين سيدو
كان الرجل وجهاً مشرقاً منوراً من وجوه العلم والمعرفة، ومنارة من منارات الفكر والفلسفة، ليس على مستوى الجزيرة وعروسة مدنها عامودا الشموخ؛ فحسب؛ وإنما على امتداد مساحات جغرافية الوعي العلمي، وعلامة مضيئة في عالم المعرفة الفسيح.
كان الشيخ عفيف الحسيني ملمحاً ناضراً من ملامح الفكر النير، ذا ثقافة موسوعية في العديد من حقول المعارف العامة، وركز جُلَّ اهتمامه بعلوم الدين الإسلامي، وعلوم اللغة العربية وآدابها، وقراءة التاريخ الإسلامي قراءة متعمقة وبرؤية معاصرة، تأليفاً ودراسة وتمحيصاً، حتى بزَّ الكثير من أقرانه في المشرب الثقافي من العلماء المعاصرين في المجال نفسه، وقد تبحّر الرجل في علم الرجال، وعلم الفلك، ودراسة الأديان والمذاهب والفرق، والكثير من العلوم والفنون والآداب.
وإذا ناقشته في مسألة علمية استعصى عليك فهمها، أو تحدثت معه عن علم من أعلام الثقافة والفكر، وسألته مثلاً عن أبي علي بن سينا صاحب المصنفات الشهيرة (القانون في الطب، والأدوية القلبية، وعيون الحكمة، وغيرها) حدثك الشيخ عن ابن سينا الشاعر، واسترسل في شرح قصيدته العينية في النفس التي مطلعها:
“هبطت إليك من المحل الأرفع
ورقاء ذات تعززٍ وتمنع”
فيعلمك دون أن تشعر أن ابن سينا كان شاعراً مجيداً أيضاً مثلما كان طبيباً ماهراً، حينها تدرك مدى درجة حجمه المعرفي الكبير، وثقافته الواسعة.
وإن سألته عن الشاعر الكردي المعروف جكر خوين وشعره، حدَّثك هو عن جكر خوين المؤرخ، فيعلمك دون أن تعرف بأن جكر خوين كان صاحب مؤلفات تاريخية، وإن كان شاعراً كبيراً.
وإذا ما طرحت عليه سؤالاً عن ابن رشد، سألك أي ابن رشد تعني؟ وأنت ليس في ذهنك إلا ابن رشد الفيلسوف المعروف، يسترسل في الشرح، فيقول: معظم جمهور المعرفة وبعض الباحثين لا يفرقون بين ابن رشد الجد، العالم في علوم الدين الإسلامي، وعلوم اللغة العربية وآدابها، وبين ابن رشد الأب الضليع أيضاً في علوم الدين الإسلامي، واللغة العربية أيضاً، وبين ابن رشد الحفيد (أبو الوليد) العالم المعروف في ميدان العلوم العقلية والفلسفة والمنطق وصاحب المصنفات الفكرية المعروفة (تهافت التهافت، وفصل المقال، ونهاية المقتصد، وغيرها) فتدرك أنك أمام عملاق من عمالقة الفكر ، فتصغي إلى حديثه الممتع ، ودرره المنثورة بأدب جمٍ ، إذْ ينطبق عليه قول الشاعر:
“إن العظيم وإن توسد في الثرى
يبقى على مر الدهور مهيباً”
كما كانت حجرته الصغيرة جامعة بمقاييس أهل العلم، وذلك للدور الفاعل التي كانت تقوم به، والمعلومات العلمية التي كانت تقدمها للباحثين وجمهور القراء.
تَعلَّم في هذه الغرفة، وتخرج فيها الآلاف من طلبة العلم، وبإشراف وتوجيه وتعليم مباشر من لدن أميرها وفقيهها وحكيمها (رحمه الله).
أما مكتبته الزاخرة بآلاف الكتب المطبوعة، والنوادر، والمخطوطات، والدوريات العلمية، والوثائق التاريخية، فلا تقل شأناً وقيمة في نشر العلم والمعرفة عن مكتبات تاريخية مشهورة، مثل بيت الحكمة في بغداد، ودار الحكمة في القاهرة، ومكتبة عارف حكمت في المدينة المنورة، ومكتبة الإسكندرية في مصر، والظاهرية في الشام، وغيرها من المكتبات وصروح العلم والمعرفة في أصقاع العالم.
كما كان شخصية اجتماعية من الشخصيات المؤتلفة في المجتمع، وبيته العامر كان ديوان عدل يؤمه المتخاصمون من كل حدب وصوبٍ، يعرضون على فضيلته (رحمه الله) خلافاتهم على أمور دنيوية، فيحكم بينهم بما أمر الله به، بمقتضى كتابه الكريم وسنة نبيه المصطفى عليه الصلاة والسلام، دون مقابل، ابتغاء مرضاة الله سبحانه وتعالى.
إنه العلاَّمة الشيخ عفيف الحسيني (تغمده الله برحمته). وفي الختام أقول ما قاله الشاعر محمد مهدي الجواهري:
“أرخ ركابك من هم ومن سهد
كفاك جيلان محمولاً على النصب”.