للأديب والشاعر المصري محمد عاطف سلامة
عبد الوهاب بيراني
كاتب وناقد/ سوريا
الرواية، أو القصة القصيرة تعتمد أساسًا على تتبُع الشخصيات، وحواراتها وأفعالها وأحلامها، ومع بداية ظهور الرواية جِنسًا أدبيًا شَكلَّت الشخصية، أو ربما كانت السيرة الذاتية محورها السردي، ومن هنا كانت فعالية الشخصية، أو بروز ما يُسمى الشخصية الفَعالة أو البطل الروائي أو القَصَصِي، ومع تطور بِنية السرد الروائي ربما غابت الشخصية في الرواية الحديثة أو الجديدة، بشكلها الكلاسيكي، ومع ذلك تبقى للشخصية الدور الأهم رغم ظُهور عناصر وسِمات سرد تُركز على الفِكر والفلسفة، ومُعاينة الحياة، والواقع والمؤثرات الحياتية بعيدة عن رسم الشخصية الأدبية، تبتعد عن الزمان والمكان الروائي ..
ربما كانت هذه المقدمة ضرورية للحديث عن تجربة كتابية مازالت تُصر على تَأْطِير الشخصية ضمن زمن ومكان مَعلومين، شخصيات من دم، وروح تعيش بيننا، شخصيات تمتلك دعائم واقعية مُؤثرة، لها من الحِكمة والتجربة مهما تَسَطَّحت، أو عَمَّقت أن تترك في نفس القارئ معرفة، وعبرة وابتسامة أو أسىً، ففي قِصص كتاب “نَبَضَاتُ الذِّكْرَيَاتِ” القصصي للأديب والكاتب المصري محمد عاطف سلامة، التي تمتاز بعدة سِمات ربما كان أبرزها اتخاذه أسماء شخصياته عناوين لقصص شخصياته؛ انطلاقًا من مجموع الأوصاف المتوفرة، وهذا يأخذنا نحو أهم سمة في بنائيته التي تتخذ بعضًا من السيرة الذاتية لشخصيات من قاع المجتمع، شخصيات لم يُبالِ أحد لإنجازاتهم، ولم يلتفت إليهم أحد … تلك الشخصيات التي تُعبر عن وحدات مُنفصلة كأفراد ومُتصلة مع الجموع؛ ما تُشكل نماذج يمكن أن يكون القارئ قد التقى بها في أماكن أخرى غير المكان السردي.
فنجد المُهمَّشين الذين ينتشلهم بأدواته الإبداعية ويعرض تطور وأبعاد شخصياتهم، سواء كانوا دراويش على باب الله، أو ماكرين أفاقين مُحتالين، أو ساذجين وبُسطاء من سكان الأرياف، أو من أحزمة فقر لمدن مصر، أو من طبقات شعبية حصلت على بعض من نِسب التعليم، أومن المُعلمين في الأرياف البعيدة، أو شيوخًا مُستنيرين وعصريين بالأزهر الشريف، حيث المُفارقات سيدة العديد من المواقف، والتي يصبغها الكاتب محمد عاطف بروح فكاهية كوميدية، وهذه النقطة سمة إضافية تمتلك القدرة على نقلها إلى نمط اجتماعي يُعبر عن واقع طَبقي، ويعكس وعيًا اجتماعيًا من المنظور الداخلي للشخصية.
حيث تعنى الشخصية “التكامل النفسي الاجتماعي للسلوك عند الكائن الإنساني، الذي تعبر عنه العادات والاتجاهات والآراء” أي أن الشخصية هي مجموع العادات والتقاليد، التي تُعبر عن تصرفات وأفكار المجتمع كشخصية جَمعّية، وليس الشخصية كفرد، فالشخصيات مَزيج من صفات وتعابير وثقافات مُتصلة، تحمل صفات إيجابية إلى جانب صفاتها السلبية، حيث تتصف بالجَرأة أو الجبن، الإقدام أو الروح الانهزامية، أو شخصية مَرِّحة قادرة أن تخلق طقسًا مُميزًا من الفرح والسرور، إلى جانب شخصية صارمة تفرض الهيبة والكثير من التحفظ، وشخصيات تمتلك الرغبة والطموح إلى جانب شخصيات تلتزم القناعة، لشخصيات تظهر ومن منطلق فهم عناصر الموضوعات التي يحاول الأديب محمد عاطف إيصالها للقارئ، أو التي يحاول الوصول لها كان لابد من فهم بِنية شخصياته، وفهم مَجريات أفعالها وأقوالها، وهو أمر لجأ إليه الكاتب في مَعرِض حديثه عن شخصيات المُجتمع المصري، ولا ينسى أن يترك للمُتَلقي عِبرة، أو توجيه أسهم نقده نحو المجتمع، وتركيبته الاجتماعية والأيديولوجية، في شكل سلسلة من المُتناقضات القائمة على القيم الأخلاقية من ناحية، والعلاقات مع المُعِيقات من ناحية ثانية، إذ سنجد شخصيات بسيطة ذات أبعاد مُتناقضة تُعاني “البارانويا” أو “الفُصام” أو “جنون العظمة” وتُمارس أدوار شخصيات ليست لها، بل شخصيات “تكذب لتتجمل” حسب تعبير إحسان عبدالقدوس، وهو بهذا يقوم بتحديد النمط الاستهلاكي للهوية، التي سيقدمها من منظوره السَردي، الذي تشاركه فيه الشخصيات الأخرى في اتصالها وانفصالها عنه، ضمن سنن الأمر والمنع المُتحكمة فيه من خلال القواعد الحياتية والطقوس المجتمعية، وغيرها من القيم الأيديولوجية، ذلك كله من أجل الوصول إلى تلك السمات البلاغية للشخصية، ليتم تعريفها وعرض اتجاهاتها الفكرية، والثقافية، والاجتماعية، والسياسية، التي تُشجع المتلقي لمتابعتها وإنشاء علاقة وطيدة مع الشخصية، ومتابعة تحولاتها السردية التي يُتقنها وبإبداع الكاتب محمد عاطف بما يملك من ذاكرة دقيقة، وعميقة وقلم رشيق قادر على مُجاراة الحَدث القصصي، ورسم شخصياته باحترافية فنان، فشخصيات كتاب “نَبَضَاتُ الذِّكْرَيَاتِ” على الأغلب أحادية التوجه بسيطة لا تُعاني تعقيدات ما، وهي ولدرجة بساطتها تطرح صورًا لشخصيات مُعقدة مُحملة بأكثر من اتجاه، فنجد الشيخ، الذي تُطربه أغنية غرامية هنا، أو رجلًا بسيطًا لم يركب طائرة، ولم يرها إلا في السماء، فنجده يقدم نفسه كميكانيكي طيران بارع، يقود ويحلق عبر فضاء من الخيال بطائرات عسكرية في فضاءات الله، أو عجلاتيا يقضي جُلَّ وقته مع صخب الأطفال، ومُتطلباتهم كي يواصلوا تسليتهم بقيادة درجاتهم في دروب القرية، وتلك كل خبرته قبل أن يلتحق بعملٍ ما، ثم ينسج قصصًا عن خِبراته السابقة، فدخل إلى موسوعة الهبدلوجي، التي ألفها الصديق الثالث، الذي يحظى بخفة ظِل مُكثفة، أو مجتمع الطلبة وشخصياتهم على اختلاف سجاياهم وطبائعهم وبيئاتهم، أو سيدات مُسيطرة داخل أسرتها صاحبة الحل، والعقد والكلمة الأولى والأخيرة، ففي كل مكان وضِمن أي مجتمع من مجتمعات الشرق يمكننا العثور علي تلك الشخوص، وسماع ذات الحكايات والقصص المُرتبطة، بمعنى أن الشخصية هي عبارة عن وحدة منفردة ومختلفة، أي ما يجعلها تحمل مميزات خاصة عن غيرها، وهي مُرتبطة بمجموع الدوافع والميول السيكولوجية، وتمتلك في الأدب كما في الحياة قدرات مُتميزة، ولهم صراعاتهم مع الناس، ومع أنفسهم ومع الزمن والمكان، عبر الذاكرة التي تُشكل البوابة، التي يُعلنها الكاتب محمد عاطف سلامة للولوج إلى مواضيعه، والتي ترفع السِتارة عن واقع جيوسياسي اجتماعي عبر استذكار شخصيات واقعية، يجعل منها مَحمولات لعرض أفكاره من خِلال سرده فترات من السير الذاتية لشخصياته، التي جعل منها المساحة الأكبر لقصصه القصيرة، والتي قام بسبكها في بناءٍ دراماتيكي، يبدأ ثم يتصاعد بحبكة شديدة الاحترافية فتشد القارئ، ولا يترك السطور حتى يطمئن ويصل إلى النهاية “الفِينال” المُشبع والمُرضي والمُقنع، وذلك في زمنٍ غابت فيه الشخصية بمِحوريتها عن النصوص الأدبية سواء في بنائية الرواية، أو عناصر القصة القصيرة.
