بتسليم مقاتلي الحرية حكومة أرمينيا تتجاهل القيم المتجذرة بين الشعبين

محمد جعابي_

تتميز العلاقات الأرمينية التركية، بأنها بالغة التعقيد، والحساسية، وتحتفظ بإرث دموي فظيع، ارتكبه العثمانيون بحق الأرمن، أبرزها مجازر السيفو، التي راح ضحيتها قرابة مليون ونصف أرمني، كما تشتت الملايين من الأرمن جراء تلك الإبادة في أصقاع الأرض كلها.

ردود فعل عملية التسليم

صرحت قوات الدفاع الشعبي(HPG)، أن أرمينيا سلمت للجانب التركي مقاتلين من الكريلا، وهما حسين يلدريم (علي شير)، ولهنك (آتيلا جيجك)، ولقد أصدرت قوات الدفاع الشعبي ((HPG بياناً حول التسليم “بينما كان رفاقنا يؤدون واجبهم بالقرب من الحدود الأرمينية، واجهوا قوات السلطات الأرمينية، ولكي يتجنبوا موقفاً سلبياً تصرفوا بكل حذر، ولكن تم اعتقالهم، وسجنهم، وفي 23 شباط 2022 قررت محكمة التمييز في أرمينيا إطلاق سراحهم، ولكن تم اختطافهم من قبل المخابرات الأرمينية بدلاً من إطلاق سراحهم وفق القانون الدولي، وقوانين دولة أرمينيا، ونتيجة للمحاولات التي بذلت، تم التعهد بالإفراج عن رفاقنا، ولكن قبل شهر سلمت الدولة الأرمينية رفاقنا لهنك، وعلي شير إلى دولة الاحتلال التركي، فيما عُدَّ فعل تركيا تجاه الأسيرين خرقاً للقوانين الدولية وللقانون التركي.

 إن رفاقنا يناضلون من أجل حماية وجود شعبهم، ونيل الحرية، وشعورهم بألم شعبهم المضطهد، وجزاء هذا النضال سلمت أرمينيا رفاقنا إلى دولة الاحتلال التركي، وهذا عار كبير على أرمينيا، وبهذه الطريقة وقع رفاقنا في أيدي دولة الاحتلال التركي، ولكن وسائل إعلام الحرب الخاصة لدولة الاحتلال التركي، قدمت هذا الحدث على أنه عملية ناجحة للاستخبارات التركية”.

ولقد نددت الرئاسة المشتركة في اللجنة التنفيذية لمنظومة المجتمع الكردستاني (kck)، بتسليم الحكومة الأرمينية للمقاتلين آتيلا جيجك، وحسين يلدريم، وذلك بعد أن اعتقلتهما في تشرين الثاني عام 2021، وعدت اللجنة التسليم خيانة عظمى للشعب الأرميني، الذي تعرض للإبادة العثمانيين الجماعية، وتواطؤاً سريّاً مع الدولة التركية.

وقد أصدرت وكالة الأمن القومي الأرمينية، بياناً تنفي فيه مسؤوليتها عن تسليم الرفيقين في الكريلا، حسين يلدريم، ولهنك إلى الجانب التركي، وأن عملية تسليمهم تمت ضمن الإطار الجنائي، وأن الوكالة لا تتدخل في الشؤون الجنائية، وعدّت الأخبار المتداولة حسب ادعائها أنها كاذبة، ومضللة.

ولقد نددت العديد من الشخصيات الأرمينية بعملية التسليم لمقاتلين إلى تركيا، حيث عدّ السياسي الأرميني هامو موسكوفيان، العملية،” أنها خيانة عظمى، وأن هذا الأمر، لم يحدث مثله في التاريخ الأرميني، وأنه أكبر عار على جبين الأرمن، وهو أكبر عار على جبين ملايين الشهداء الأرمن، الذين راحوا ضحية المجازر، التي ارتكبها العثمانيون بحقهم”.

تجاهل أرمينيا للمجازر التركية

يُستغرب تقرّب أرمينيا من الجانب التركي، على الرغم من المآسي والإبادات، التي قام بها العثمانيون في العصور الغابرة، أسلاف أردوغان، والتي تعدّ خيانة لدماء الضحايا الأرمن، وضحايا الشتات في العالم، وتصرف الحكومة الأرمنية وفق ذلك يبدو بشكل جلي زرع التفرقة، والخلاف بين الشعبين الأرمني، والكردي، اللذين تربطهما علاقات تاريخية تعود إلى آلاف السنين، بحكم أنهم من الشعوب المتجذرة، والأصيلة في المنطقة، وذلك عبر تقديم خدمات مجانية للأتراك.

هنالك عدة أمثلة في التاريخ، تدل على عمق العلاقات بين الشعبين الأرمني، والكردي وفي العصر الحديث، مع نهاية الدولة العثمانية قامت عدة لقاءات بين الزعامات الكردية، والأرمنية، لتوحيد الصفوف، وتحقيق المساواة، والحرية، والإخاء بين الشعوب، التي كانت خاضعة للسلطة العثمانية، ولقد رفض القائد عبيد الله النهري، الظلم الممارس من قبل السلطات التركية، والإيرانية بحق الشعوب، فكان يؤكد على ضرورة التقارب بين الشعوب المختلفة والكرد، ومنها الشعب الأرمني، ولقد حدثت لقاءات بين ممثلي الشعبين الأرمني، والكردي بعد الانقلاب على السلطان عبد الحميد الثاني، لتعزيز وحدة الصف، وتحقيق مبدأ المساواة، والأخوة بين الشعوب، وتمثل انتفاضة بدليس 1914مثالاً صادقاً على وحدة المصير، والتكاتف بين الشعبين، فقدموا أمثلة في الشجاعة، والصمود، ونالهم الظلم، والإبادة، والاعتقال من قبل السلطات العثمانية، وذلك في سعي العثمانيين لإخماد الثورة، وكانت هناك علاقة مميزة، عقب ثورة الشيخ سعيد بيران، بين حزب الطاشناقسوتيون، وحزب خويبون، وكانت تتم لقاءات بينهم لتنسيق المواقف.

لقد هدفت تركيا من خلال مشاركتها بالحرب العالمية الثانية، أن توجد لنفسها نظاما دينياً؛ للالتفاف المسلين حولها، وتأخذ زمام المبادرة للقرارات الدينية، فأصدر السلطان العثماني (محمد رشاد)، بياناً بإعلان (الجهاد المقدس)، واجبًا دينياً على كل مسلم، ودعوة المسلمين عامة إليه، وكانت هذه حجة للقيام بجرائم الإبادة بحق الأرمن (الجينوسايتد)، التي راح ضحيتها مئات الآلاف من الأرمن بين قتيل، ومهجر في الشتات، وكانت المرحلة الأولى من الإبادة عام 1914 بقتل 150 ألف ضابط، وجندي أرميني، والثانية تمت باعتقال 600 شخصية دينية، واجتماعية، وسياسية عامة أرمينية، تبعها عملية إبادة وتهجير للشعب الأرميني، تعرضوا خلالها للقتل، والاغتصاب وسلب ممتلكاتهم، وتشتيت الناجين منهم، في بوادي سوريا، والعراق وباقي أصقاع العالم، واستمرت العملية من 24 نيسان 1915حتى توقيع هدنة (مودرس) 30 نيسان عام 1918 وراح ضحيتها مليون ونصف أرمني.

تشير بعض المصادر إلى مشاركة بعض الكرد في عملية الإبادة، ولكن هذه المشاركة تتسم بطابع فردي بحت، وكذلك كان بعض أبناء العشائر الكردية ضمن تشكيلات (الفرسان الحميدية) ضمن الجيش العثماني، التي تأتمر بأمر قيادته، فمن يمتلك القرار السياسي وحده يتحمل المسؤولية، وهم بطبيعة الحال لا يمثلون موقف الشعب الكردي بغالبيته، الذي لم يشارك في المذابح لأنهم أنفسهم كانوا ضحية للظلم العثماني، ويتعرضون للظلم والإبادة، وقامت القبائل الكردية بحماية الأرمن الفارين من ملاحقة العثمانيين، ضمن قراهم، وبيوتهم وتأمين ممرات عبور لهم إلى مناطق في سوريا والعراق، مثل حلب والجزيرة في سوريا، ومنها توجهوا إلى باقي البلاد.

دور تركيا في الصراع بين أرمينيا وأذربيجان

تعد تركيا معظم الدول المحيطة بها، والتي كانت تحت سلطة الدولة العثمانية قبل انهيارها، وخروجها عن سلطتها، تابعة لها ثقافياً، وسياسياً، واقتصادياً، بالإضافة إلى بعض الدول في آسيا الوسطى، مثل أذربيجان، تركمانستان، قرغيزستان وغيرها من الدول، التي ترى تركيا أنها تشترك معها بالأصل العرقي نفسه للقبائل التركية، وتتكلم اللغة التركية نفسها، والأطماع التركية التوسعية، لا تقف عند حد وتستغل الأدوات المتاحة كلها، بما فيها التاريخ، والدين، واللغة، والقبلية في تحقيق مصالحها الذاتية، وتصيير العوامل كلها لمصلحتها، فتارة تستغل العامل الديني، وخاصة الإسلام السني بالأخص في المنطقة العربية، للتأكيد على زعامتها للعالم الإسلامي السني، الذي يقابل الزعامة الإيرانية للعالم الشيعي، مستغلة التنظيم العالمي للإخوان المسلمين وسيلة لذلك، وتارة تستغل العامل القبلي، واللغة المشتركة مع جمهوريات آسيا الوسطة، لتعميق توغلها فيها حيث يكون العامل الديني، وخاصة المذهبي يكون ضعيفاً، بحكم تبعية أغلب دول آسيا الوسطى المذهب الشيعي.

فتعد تركيا من أبرز الداعمين لأذربيجان في نزاعها مع أرمينيا، ولقد أحسنت تركيا استغلال هذا الدعم في تحقيق مكاسب اقتصادية منها، حيث تحصل تركيا على خصم 40 بالمائة من قيمة الغاز المستورد من أذربيجان، بالإضافة إلى حجم التبادل التجاري الضخم، ووجود مئات الشركات التركية، التي تعمل في أذربيجان، وكذلك العديد من الشركات الأذربيجانية التي تتواجد في تركيا، وهنالك خط، (باكو-بيتليس-جيهان) للبترول ويتم عبره نقل البترول الأذري إلى أوروبا، عبر ميناء جيهان التركي وتقدر طاقته السنوية 50 مليون طن، وهنالك مشروع تاب لنقل الغاز الأذري لأوروبا، الذي ينقل عبره حوالي 16 مليار متر مكعب عشرة منها لأوروبا، وستة منها لتركيا.

وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي عام 1991 وحصول معظم الجمهوريات السابقة على استقلالها كانت تركيا من أوائل الدول، التي اعترفت باستقلال أرمينيا، وأذربيجان، وأقامت تركيا علاقات كاملة مع أرمينيا، ولكن بعد اندلاع النزاع بين أرمينا وأذربيجان على إقليم قره باغ عقب سيطرة فصائل موالية لأرمينيا، قامت تركيا بقطع العلاقات مع أرمينيا وإغلاق المنافذ الحدودية، والنقل عبر سكة الحديد والنقل البري معها واشترطت في أكثر من مناسبة تسليم إقليم قره باغ لأذربيجان كشرط أساسي لعودة العلاقات، ولقد ساندت تركيا أذربيجان عسكريا في الصراع، الذي نشب عام 2020، وذلك عبر تزويدها بالأسلحة الثقيلة والطائرات بدون طيار (بيرقدار)، وإرسال المرتزقة السوريين من الفصائل المسلحة، الذين شاركوا في العمليات القتالية إلى جانب أذربيجان.

تعد العلاقات التاريخية، وحسن الجوار، والعيش المشترك بين الشعبين الكردي، والأرميني قويةً ومتينة ومتجذرة، التي لا تؤثر فيها محاولة زرع الفتنة بين الشعبين، وتصرف حكومة أرمينيا بتسليم مقاتلي الحرية، استدارة لتلك القيم المتجذرة بين الشعبين، في حين يعد تصرفها بتسليم المقاتلين ضمن المصالح السياسية، التي تسعى إليها أرمينيا إرضاءً للحكومة التركية بعيداً عن غايات الشعوب.