ريما آل كلزلي (أديبة سورية)_
استهلّ الرواية بقوله: (والزمن يحبو، يقطر حنينًا، ثم انتقل إلى كونه يعدو، لا يتوقف) فظل مفهوم الزمن ومازال، يتصدر الدراسات الفلسفية، والفيزيائية، والأدبية، ولاسيما على مستوى علاقته بالوجود الإنساني؛ ليوضّح الدور الذي يقوم به؛ لكي يمنح الرواية شكلها وصورتها النهائية، وحول مدى قدرته على تجسيد الرؤيا والفلسفة تجاه الواقع المُعاش، فهذا يجعل الرواية تنطلق في اتجاهين؛ الأول شكلي، وتعتمد فيه على بعض مصطلحات جيرار جينت، التي تربط بين زمن الحكاية، وزمن السرد. والثاني تحليل المستوى الدلالي من خلال دراسة علاقة الزمن الروائي بالشخصيات، والمكان والزمن.
وحيث أنّ المقاربة النقدية تستند الى عدّة معايير، ومقاييس تنصب على الجوانب الدلالية، والشكلية، والبصرية، فتميزت هذه المقاربة بين الأركان والشروط، أو بين المكوّنات الداخلية، والتقنيات الخارجية، وبين العناصر البنيويّة، التي تميّز فنّ الرواية الحديثة، وخاصة في الخليج العربي، وتفرّدها عن باقي الأجناس الأدبية الأخرى، وبين المقاييس المشتركة التي تجمعها بغيرها.
ارتباط الكاتب بالزمن عنصر يثير الحنين إلى طفولة، لمّا تكتمل، قُضيت في الترفع عن اللعب مع أقرانه؛ بسبب شغفه بالقراءة، وفي المراهقة خجله عن الإفصاح عن حب عذري، سكن روحه إلى ما بعد الأبد، وحنينه للأماكن، التي ما فتئ يشعر بصفائها ونقاء شخوصها، فالحنين ثيمة التصقت في وعيه الضمني؛ لذا حاولت حروفه، وهي منهمكة في التمرّد على الآفاق، أن تتجاوز حد اللامتناهي، واللا تحديد لتنفلت من آفاق ويفتح أصعدة الهيجان والجنون، فلا يرى إلا جنوحه وفكرته خارج الآفاق، وربّما يراها في بقع ذاته السوداء؛ لذا لا يجتمع في محرابه سوى فعل القراءة والكتابة.
الروائي الشاعر عبد الحميد القائد، استهلّ روايته بعد العنوان بعبارة “كان الوقت مساء” بفعل إشارة تأكيدا لفعل المشهدية وعنصر الزمن، الذي ستكون عليه السردية.
فبحثت الرواية في المعنى الوصفي للزمن، الذي يظهر مندمجاً في حدث ظهور الفايروس المقصود، وإذا كان الزمن محور الكون والحياة، ومحور حياة الإنسان الداخلية، والمحرك الخفي لمشاعره وتقلباته الجسدية والنفسية، فإن الكاتب اجتهد في تحديد مفهومه الخاص للزمن، وحدد نوعين من الزمن، لهما دور في تشكيل شخصيته، وهما الزمن الطبيعي (الموضوعي) والزمن النفسي، كما تتناول أبعاد الزمن، الماضي والحاضر والمستقبل في تكوينه، وتغيرات الشخصية على مر الوقت، ومدى تعامله مع الحدث في كل مرحلة عمرية.
في الإشارة إلى قول (تتبعثر الأشياء في العتمات) ص٧، دلالة ضمنية إلى، أن الفوضى العارمة مستبدة في نفس الكاتب والظلام يخفي محوريتها، لرجل مسكون بأصوات عوالم عتيقة، تناديه من خلف الكثبان الرملية (إرم ، إرم)
تترفع لغة السّرد الشعرية عن البساطة بانتقاء الكلمات، ولكنها تتميز بميلها نحو السلاسة. في النص الحكائي إخبار بفيروس لعين قاتل، قد يغير وجه الأرض، لكن بكثير من اللامبالاة، والترقي الحذِر، أشار الكاتب إلى نوع التغيير الذي سيحصل، ليس أهم ما فيه التحول إلى العالم الرقمي لممارسة الحياة عن بُعد، وكأن هذا الفيروس مخدّر سيعطى للأرض الموبوءة بشيء ما، قبل عملية التغيير الجراحية العظيمة، وبعقلانية فضّل التعامل مع الحدث ومرة بلا مبالاة، يرى ذاته مسطّرة على الورق، من خلال عشقه للقراءة، وعلاقته بالكتب والمقاهي، وقد ملّ عبثية الحياة متمثلًا فكر ألبير كامو، وأسئلة وجودية فلسفية ليس أولها (الموت ليس عدم)، وحيدًا كان لكنه يتساءل عن ماهيّة التيه، الذي سيشهده العالم، كيف ستكون معالمه، وأين نهايته..؟
بقوله: “وإن هذه الحياة ليست سوى فخٍّ خبيثٍ، لا يفلت منه سوى القذرين فقط”.
حتى رأى تلك الظبية الفاتنة بقصّتها الغريبة عن الشبه، بينه وبين زوجها المتوفّى، التي أشغلته فترة من الزمن، بقصة حب ولجها من كتاب عظيم، وظلّ يقرأ في بلاغته ونثره إلى يوم الصدمة، الذي فارقته فيه ظبيته؛ بسبب الفيروس القاتل نفسه.
وبسبب هذا الفيروس في زمن محدد حصل رعب في المشهد كله، انعكست آثاره السلبيّة في صور كثيرة وجوانب إنسانيّة مهمّة تغوص في العمق السيكولوجي للبنية المجتمعية، فتكشف عن خبايا ونواقص في تكوين الشخصيات، وكانت هناك أحداث أخرى، تدور وتتمحور حول موقف، قد يبدو للوهلة الأولى غامضًا جدًا ثم يعكس قصة حب حقيقية، في ظلّ ما يعانيه البطل الإنسان سعيد، من قلق نفسي من مجهول ما يراوده بدون أن يعي أسبابه، تحت ضغط اجتماعي يلازم نسق ثقافي ضمني، يبني شبكاته باستمرار في مخيلته.
قصة مثلت حيرة الإنسان في زمن ليس من السهل التآلف معه؛ حيث يُعَدّ الزمن هنا محورَ الرواية، وعمودها الفقري، وهي من القصص الملغّزة، التي عاشها الكون بأكمله، واختلف البشر في مستوى ردة الفعل نحوها.
حقق ذاته سعيد في جانب مهم كمرشد نفسي بحسب تخصّصه الجامعي، حين دعته حبيبته الدكتورة؛ لكي ينخرط في سلك العمل التطوّعي؛ ليباشر مساعدة الحالات الهلِعة، التي لم تتحكّم بسيكولوجيتها في خضم الحدث، فطرح لنا أمثلة مجتمعية كثيرة، اختزلت مشاهد عظيمة، وتضمّنت سلبيّات عميقة جدًا، وكلّ حالة قصّة بأكملها، ولكن موضوع الفتاة المزاجيّة نجلاء، كان أسوأها؛ لأنّها فتاة منحلّة اتّخذت من الكورونا سببًا لتخلع زوجها، وفيما بعد اكتشف أنها أخذت رقمه؛ لتسبب له مضايقات تشي بانقلاب الزمن، ورداءة ما وصل إليه حال بعض الفتيات.
كان عنصر التشويق يدور بين أحداث الرواية، مثل بكرة ترفع الماء من بئر، والقارئ يتعطش لدلوها، ولو جاز اختزال التعبير: أفصح أن الرواية وضعتنا أمام استكشاف ملامح علاقة أسطوريّة شعائريّة من نوع خاصّ بين فنّ السرد والصحراء، وتلك العوالم المختفية بين طيّاتها (الربع الخالي)، سواء على مستوى التطوّرات، التي تعتريهما أم على مستوى البنية وتفاعلاتها الفنية.
فالصحراء، (والصوت الذي يسمعه، صرير ريح) هنا فوق دلالتها المكانية إطار تاريخي زمني يرتبط بمجموعة من الدلالات المفهومية التجريدية، التي تملأها وقائع الرواية بمعطيات ملموسة في حركة الحدث الروائي.
والبعد البصري لمشهدية المكان الذي يُعَدّ هنا تشكيلاً مقصوداً من جهتين هما:
-
جهة القيمة التصويرية بوصفها عاملاً سردياً…
-
جهة القيمة الدلالية بوصفها نتاجاً تعبيرياً مشفّراً.