كوبو آبي… كافكا اليابان.. عالم يتأرجح بين الواقعية السحرية، والوجودية، والسيريالية

أصدرت دار العين للنشر والتوزيع ترجمة مجدي خاطر، رواية «المعلب» للروائي الياباني كوبو آبي (1924 – 1993)، الذي سبق أن ترجم له كامل يوسف حسين، إلى العربية، روايتين هما «موعد سري» و«امرأة في الرمال» والثانية ترجمت إلى عشرين لغة، وتتناول حكاية سيريالية، سوداء عن أستاذ في علم الحشرات، يفتش عن خنفساء نادرة، فيصل إلى قرية ساحلية نائية، مطمورة وراء الرمال، ويبتغي مكاناً يقضي فيه ليلته، فيدله سكان القرية على مسكن متداعٍ لأرملة شابة، تعيش بمفردها في قاع حفرة عميقة، وسط الرمال، تجتاحها جحافل نمل مفترس.

ينزل إلى قاع الحفرة عبر سلم طويل، مصنوع من الحبال، يكتشف اختفاءه في الصباح، وأنه وقع ضحية فخ منصوب برفقة المرأة؛ حيث يكدان بلا توقف، لمنع الرمال من ردم الحفرة، ويكشف البطل في بداية إدراكه للمأزق الوجودي عن إرهاصات للمقاومة، لكنه سرعان ما يدرك أنه لا يملك خياراً، غير أن يساعد المرأة في مهمتها السيزيفية، التي تستنفد نهارها كاملاً، ويتحول خلال ذلك إلى كائن يشبه حشرة بشرية، سجين عزلة روحية تزداد في اتجاه موت مشين.

تجنب آبي الأحكام الأخلاقية واليقين القاطع، خلال طرحه لفكرة، أنه ما من تأويل منيع ضد عوامل التغيير المستقبلية أثناء إجهازها البطيء، علينا مثل كثبان رملية، لكن رواياته التالية تؤكد إحساسه الخانق بالأزمة الوجودية للإنسان المعاصر، وعزلته الشديدة في بحثه عن المستقر الروحي داخل عالم وحشي.

 أما رواية «المعلب» فصدرت سنة 1973، وهي واحدة من أشهر أعمال آبي، وتعدّ استعارة قوية عن الذات المتشظية في ظل النمو الاقتصادي سريع الوتيرة، الذي شهدته طوكيو خلال الستينيات من القرن الماضي، فتستهل الرواية بأولى الصور الفوتوغرافية الكثيرة، المنتشرة بين صفحات الكتاب، لكن هذه المرة صورة نيجاتيف، تكشف عن رجل في شارع، إلى جانب الصورة قصاصة من صحيفة، تحمل عنوان «تطهير أوينو من المشردين – اعتقال مائة وثمانين خلال حملة أمنية هذا الصباح»، نتعرف بعدها إلى بطل الرواية، الذي يحاول إنقاذ نفسه من التفسخ الروحي، فيلجأ إلى العيش داخل صندوق من الكرتون.

يتسع عالم آبي الممسوخ للاستعارات المبتذلة، التي يقبل بها الأدب البوليسي، وأدب المغامرات والجريمة، جنباً إلى جنب مع الاجترار الفلسفي لأسئلة الهوية، وصورة الذات والتشظي، وربما لهذا السبب يجد القارئ صعوبة في تصنيف عالم آبي الأدبي، الذي يتأرجح بين الواقعية السحرية، والوجودية، والسيريالية، وتأتي هذه الرواية عبر نص تجريبي مفتوح على تأويلات عديدة، بشأن هوية الراوي نفسه؛ إذ يضطر القارئ هنا إلى طرح عدة أسئلة دائمة، بشأن هوية الشخصية، التي يزعم الراوي أنه يسرد من وجهة نظرها، وهل ممكن تصديقها؟

يعدّ كوبو آبي أبرز كتاب الأدب الطليعي في اليابان، خلال النصف الثاني من القرن العشرين، فهو صاحب إنجاز أدبي رفيع، مضفور بحساسية حداثية، وتجليات سيريالية كابوسية عن وضعية الفرد في المجتمعات المعاصرة، عبر نصوص في الرواية، والمسرح، والقصة القصيرة، تتجسد فيها ثيماته الرئيسية: الاغتراب، العزلة، فقدان الهوية، الكوميديا السوداء، مدن التيه، المحاكمات العبثية.

بيعت من كتبه ملايين النسخ، وترجمت إلى عشرات اللغات، وقورنت بأعمال كافكا، وبيكيت ومورافيا، حتى لقد سمي كافكا اليابان، وظل مرشحاً منتظراً لجائزة نوبل، حيث تكرر اسمه عدة مرات، وكانت تجربة الخراب، أثناء الحرب العالمية الثانية، وغياب اليقين قد تركت خواء بالنفسية اليابانية، وحاول الكثير من المؤلفين آنذاك، العثور على تعريف جديد للهوية اليابانية، لكن آبي تجاوز تخوم الحدود القومية لبلاده، ليتصل بهوية الفرد الحداثي عموماً، وقد وفرت له تجربته الاستثنائية، باعتباره غريباً يابانياً منظوراً راقب من خلاله الرضوض الوجودية، التي أصابت اليابان خلال التحديث، تعداها إلى التحديات، التي تواجه المجتمعات الحديثة عموماً.

ولد كوبو آبي في طوكيو، لكنه قضى طفولته وشبابه في إقليم منشوريا الصيني، الذي كان خاضعاً للاحتلال الياباني آنذاك، وفي سن السابعة عشرة عاد إلى اليابان، ودرس الطب عام 1943، لكنه تسرب مثل كثيرين من التقليدية الخانقة لنظام التعليم الأكاديمي الياباني، وعاش حياته بائعاً على عربة خضراوات، ثم بائعاً للفحم في شوارع طوكيو المخربة.

زوّر شهادة صحية، تفيد بإصابته بمرض السل؛ ليتفادى الموت المحقق على جبهة القتال، وفي تلك الفترة بدأ كتابة القصائد، والقصص قبل أن ينشر كتابه الأول على نفقته الخاصة عام 1947، وظهر التأثير الفانتازي في قصصه الأولى مثل «شرنقة حمراء»، وكان ينادي بضرورة، «أن يكون الأدب الجديد قادراً على تمثيل المتناقضات جنباً إلى جنب، مع الواقع، والوهم، الجسد والروح، النشاط والخمول، الوثائقي والخيالي».

وكالات