كشفت وثائق سريّة عن تلقّي مسؤولين أتراك رفيعي المستوى من المشاركين في إقرارِ وتنفيذِ سياساتِ الدولةِ العدوانيّة والاستبداديّة المناهضة للكرد، تدريباتٍ عسكريّةٍ أمريكيّةٍ، وذلك في إطار برنامج المساعدة الأمنيّة، الذي دعم القادة الدكتاتوريين وفرقِ الموتِ في جميع أرجاء العالم وقد بقي هذا الدعم مستمراً إلى الوقتِ الحاضرِ.
صفوة الجيش التركيّ تلقوا تدريبات أمريكيّة
في تشرين الأول عام 1979 حضّ السفيرُ الأمريكيّ في تركيّا، رونالد سبيرز، الكونغرس، على عدمِ قطعِ الدعمِ الأمريكيّ للجيش التركيّ، لكنّ طلبَ السفيرُ الأمريكيّ في تلك الفترة لم يكن ذي أهميّةٍ.
تحتل تركيّا موقعاً متميّزاً على البحر المتوسط وتشترك في حدودٍ بريّةٍ مع الاتحادِ السوفياتي، فضلاً عن كونها عضواً في حلفِ شمال الأطلسي منذ نحو 30 عاماً، إلى جانب دورها الهام بخطِ المواجهةِ في الاستراتيجيّةِ الأمريكيّةِ خلال حقبةِ الحربِ الباردةِ. وقد قامتِ الولاياتُ المتحدةُ بتعزيزِ علاقتها مع أجهزةِ الأمنِ والاستخباراتِ التركيّة لتحقيق أهدافها وتقويتها على حساب السلطات المدنية المنتخبة.
يُعتبر البرنامجُ الدوليّ للتعليمِ والتدريب العسكريّ IMET وهو برنامجُ مساعدةٍ أمنيّةٍ يُموّل تكاليفَ تدريبِ الأفرادِ العسكريّين الأجانبِ في الولايات المتحدة إلى جانبِ نظرائهم الأمريكيّين، أحد عناصرِ تلك الاستراتيجيّة.
رأى سبيرز أنَّ المساعدةَ التي يقدّمها البرنامجُ الدوليّ للتعليم والتدريب العسكريّ تستحقُّ تسليطَ الضوءِ عليها حيث قال: “إنَّ عائداتِ هذا البرنامج أكبر بكثير من الأموالِ القليلةِ نسبيّاً التي تُنفق عليه”. ومثالاً على ذلك، ذكر السفيرُ العديدَ من الضباط الأتراك رفيعي المستوى الذين درّبتهم الولاياتُ المتحدةُ من خلال البرنامج الدوليّ للتعليم والتدريبِ العسكريّ وهم “نجدت أوروغ وصلاح الدين ديميرشي أوغلو وبدر الدين ديميريل وتحسين شاهينكايا ونجات تومر”، ووصفهم بأنّهم “من صفوة الجيش الذين تلقّوا تدريباتٍ من الولاياتِ المتحدة وتشبّعوا بالعقيدةِ العسكريّة، فضلاً عن اكتسابِ العاداتِ والتقاليدِ الأمريكيّةِ”.
من خلال هؤلاء كانت ثمارُ دعمِ الغربِ لتبدأ بالنضوجِ في أقل من عام، فيتمكّن هؤلاء الجنرالاتُ الخمسة في 12 أيلول عام 1980 من الإطاحةِ بالحكومةِ التركيّةِ المنتخبةِ، حيث اعتبر ذلك بدايةَ مرحلةٍ جديدةٍ من القمع السياسيّ والحربِ الأبديّة التي من شأنها بلورةُ السياسةِ التركيّةِ لعقودٍ قادمةٍ.
تولّى كلٌّ من قائدِ سلاح الجو التركيّ تحسين شاهينكايا، وقائدُ البحريّةِ نجات تومر، السلطة في تركيّا بموجبِ مرسومٍ لمدةِ ثلاث سنوات. وفي عام 2014 أدانت محكمةٌ تركيّةٌ كلاً من شاهين كايا، بالإضافةِ إلى مدبّرِ الانقلابِ كنعان أفرين، بارتكابِ جرائمِ ضدَّ الدولةِ.
كان قائدُ الجيشِ الأولِ نجدت شروغ، مسؤولاً عن تنفيذِ الأحكامِ العرفيّة في إسطنبول في أعقابِ الانقلابِ العسكريّ، وقد تولّى رئاسةَ هيئة الأركان العامة عام 1983 واستمرَّ في هذا المنصب حتى عام 1987.
أما الجنرالُ بدر الدين ديميريل، قائدُ الجيشِ الثاني، فقد كان مسؤولاً عن تنفيذِ الأحكامِ العرفيّة في ولايات: (قونية ونيدة وقيصري ونفشهير وكرشهير ويوزغات). وكان قائدُ الجيشِ الثالثِ صلاح الدين دميرجي أوغلو، مسؤولاً عن تنفيذِ الأحكام العرفيّة في ولايات أرزينجان وجوموشان وغيرسون وطرابزون وريزا وأوردو وسيواس وتوكات وأماسيا وجوروم وسامسون وسينوب.
انقلابُ عام 1980 والحربُ في كردستان
أُثير الجدلُ حولَ احتماليّةِ تورّطِ الولاياتِ المتحدةِ بالانقلاباتِ العسكريّةِ التي حدثت في تركيّا، خاصةً بعد كشفِ موقع ويكيليكس عن الوثيقةِ التي كانت بحوزةِ السفيرِ سبيرز عام 2016، والتي أظهرت أنَّ هناك علاقة مباشرة بين برنامجِ التدريبِ الأمريكيّ والقادة الذين دبّروا الانقلابَ وأدخلوا تركيّا في مسارٍ استبداديّ ووحشيّ.
لم يعد هناك وجودٌ للديمقراطيّةِ في تركيّا بعد انقلاب عام ١٩٨٠ حيث حُلّ البرلمانُ المنتخبُ، وقُمعتِ الأحزابُ السياسيّة، كما تمَّ حظرُ النقاباتِ العماليّةِ ومنظماتِ المجتمعِ المدنيّ، ومُنعتِ الصحفُ من النشر، بالإضافةِ إلى اعتقالِ أكثر من نصف مليون شخص بتهمٍ مُسيّسةٍ، وقد كان التعذيبُ قاسياً جداً داخل السجونِ، الأمر الذي دفع بمنظمةِ “هيومن رايتس ووتش” لوصفِ ذلك بأنّه جريمةٌ ضدَّ الإنسانيّةِ، وقد لقي المئاتُ من المعتقلين حتفهم في المعتقلاتِ، ومن المحتملِ جداً أنَّ العددَ الحقيقيّ يفوقُ ذلك بكثير.
إنَّ أكثر المتضررين من هذا القمعِ هم الكردُ الذين تعرّضوا لحملاتِ تطهيرٍ عرقيّ ممنهجة بدأت منذ عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، حيث سعى النظام الانقلابيّ لإنهاءِ الوجودِ الكرديّ وتجريمِ أيّ أمرٍ يُعبّر عن الهويةِ الكرديّةِ.
نتيجةَ لهذا الاضطهادِ فضّل بعض الكردِ المقاومةَ على الخنوعِ، وذلك بعد إغلاقِ جميعِ الأبوابِ أمام حقوقهم الأساسيّة ورفضهم سياسةَ التتريكِ التي فُرضت عليهم. أمام هذا الواقع بدأ حزبُ العُمّال الكُردستاني ـ الذي أسسه مجموعةٌ من طلبةِ الجامعاتِ بأواخر السبعينياتِ ـ نضاله المسلّحَ من أجلِ نيلِ الكردِ حقوقهم وحرّيتهم عام 1984.
دمّر النظام التركيّ آلافَ القرى وهجّر ملايين المدنيين وفرضَ الأحكامَ العرفيّةَ على الولاياتِ ذاتِ الغالبيّةِ الكرديّةِ، وأشرف على عملياتِ تصفيةِ خارج نطاقِ القضاءِ، بالإضافة إلى وجودِ حالاتِ اختفاءٍ قسريّ نفّذتها القواتُ الحكوميّةُ والميليشيات التابعة لها. لم تفض دعوات حزب العمالِ الكردستانيَ لوقفِ إطلاق النارِ إلى نتائج ملموسةٍ من أجلِ مفاوضاتٍ بنّاءةٍ مع النظام التركيّ. في عام 1991 اُنتخب 22 نائباً يمثلون الكردَ تحت قبةِ البرلمان للمطالبةِ بحقوق الكرد سلميّاً من النظام التركيّ، إلّا أنّه اعتقل من هؤلاء ستة نوابٍ خلال فترةِ ولايتهم وأعدم أحدهم رمياً بالرصاصِ.