عين عيسى/ برخدان جيان ـ
شكّلت المقاومة الأسطوريّة في كوباني، بداية النهاية للقضاء على مخططات داعش ومن ورائه دولة الاحتلال التركي التي أرادت القضاء على شعلة المقاومة، وتطبيق مخطط استعماري لطالما أرادته بعد اندلاع الأزمة السوريّة، إلا أن إرادة الشعوب المقاومة كان لها رأي آخر؛ فهبّت للدفاع عن مدينة كوباني التي شكّلت القلعة الحصينة أمام تلك المخططات.
كان استهداف داعش لثورة التاسع عشر من تموز في شمال وشرق سوريا، حلقة من الحرب الشاملة المُعلنة ضد المنطقة وشعبها الثائر، ولم تكن هذه المعارك هي الوحيدة، فبالتزامن مع استمرار الحرب الهادفة للقضاء على المرتزقة، وعندما استشعرت تركيا أن حربها بالوكالة عن طريق داعش توشك على الانتهاء، ورهانها يخسر، أعدت العدة لشن هجوم على مدينة المقاومة (كوباني).
أسطورة تحرير المدينة
بعد أن ساد اعتقاد، بأن داعش لا يُهزم بعد سيطرته على عدة مدن في سوريا والعراق ومن ضمنها مدينتي (الموصل ـ الرقة)، توجهت أنظاره الى احتلال مدينة كوباني، حيثُ هاجم في 15 من أيلول 2014 قرية تعلك غرب مقاطعة كوباني بعدد كبير من الأسلحة مستخدماً الدبابات وفاتحاً عدة جبهات جنوباً وشرقاً ليبدأ زحفه نحو المدينة، فبعد 21 يوماً من بدأ الهجوم وصلت داعش إلى أطراف كوباني، وفي الخامس من تشرين الأول من العام نفسه، بدأت باقتحام أحياء المدينة بعد الاستيلاء على تلة (مشته نور) الاستراتيجية، لكن المقاتلين المقاومين عن مدينتهم اجتمعوا في مركز المدينة، وأعادوا تنظيم صفوفهم ليبدؤوا تنفيذ المهمة التي بدت شبه مستحيلة.
ولكن وما أن ظهرت أولى بوادر المقاومة بدأ المقاتلون من وحدات حماية الشعب والمرأة إلى جانب عدة فصائل من الشعوب السوريّة بتشكيل غرفة عمليات (بركان الفرات)، في تلك الظروف الصعبة وبسبب المقاومة الأسطورية التي أبداها المدافعون عن كوباني دفع التحالف الدولي لمحاربة داعش، لشن غارات جويّة على نقاط المرتزقة في المدينة ومحيطها، الأمر الذي قلب المعادلة لصالح المقاومين بعد انتفاضة المدن الكردستانية بأجزائها الأربعة وتوجه عدد كبير من المقاومين الذين اصطفوا إلى جانب المدافعين عن المدينة. وكانت لعملية الشهيدة آرين ميركان الفدائية الدور البارز في قلب الموازين لصالح مقاومة كوباني وبث الرعب في قلب داعش؛ الأمر الذي أدى إلى إحاطة الهزيمة به من كل جانب.
اكتسبت المقاومة في كوباني زخماً كبيراً فأُعلنَ الأول من تشرين الثاني يوماً عالمياً للتضامن مع مقاومتها، وخرجت مسيرات داعمة لها في عشرات المدن العالمية، حيث تمكن المدافعون عن المدينة قلب الموازين العسكرية وتحقيق المستحيل بالإعلان عن تحرير المدينة في 26 تشرين الثاني 2015، والتوجه نحو تحرير قراها.
رمزية مدينة المقاومة دفعت لتحقيق النصر
بعد إكمال تحرير قرى كوباني والبلدات المحيطة، أُعلن في شمال وشرق سوريا عن تشكيل قوات سوريا الديمقراطية، لتضم وحدات حماية الشعب ووحدات حماية المرأة إلى جانب تشكيلات عسكرية أخرى عربية وسريانية وانضم إليها أبناء مناطق شمال وشرق سوريا.
وتولت قوات سوريا الديمقراطية (قسد) مهام تحرير مدن شمال وشرق سوريا من داعش، فكانت أبرز المدن التي جرى تحريرها منبج والرقة والطبقة وريف دير الزور الشمالي والشرقي، حتى القضاء على وجوده الجغرافي في آخر معاقله بالباغوز في ريف دير الزور الشرقي في آذار عام 2019.
وشكّل تحرير منبج في آب عام 2016، بعد نحو عام ونصف من تحرير كوباني، ضربة قاضية لداعش، إذ كانت المدينة عاصمة المرتزقة الأجانب القادمين من خارج سوريا، كما مكّن تحرير منبج من فصل مناطق احتلال داعش عن الحدود التركية، وكان ذلك بمثابة قطع شريان الحياة عن المرتزقة الذين بدأوا بالانهيار يوماً بعد آخر.
لكن بقي خطر داعش مستمراً، ولا زالت خلاياه النائمة حتى يومنا هذا تهدد حياة السكان، بالإضافة إلى قيام المرتزقة بشن هجمات على قرى ومدن المنطقة، لعل أبرزها كان الهجوم على سجن الصناعة في الحسكة مطلع عام 2022، ومحاولة إخراج الآلاف من مرتزقة داعش المعتقلين، وهو ما كان سيعني عودة المرتزقة لتنظيم صفوفهم وإعادة الانتشار في سوريا والعراق، ولكن كانت مقاومة قوات سوريا الديمقراطية لهذه المخططات عبر التصدي لها قد أحبطتها.
مدينة المقاومة أبرزت الوجه الحقيقي للمحتل
شنت تركيا هجوماً بريّاً وجويّاً على مقاطعة عفرين شمال غرب سوريا، مطلع عام 2018، واحتُلت المدينة في الثامن عشر من آذار، بعد 58 يوماً من المعارك الضارية التي خاضتها قوات سوريا الديمقراطية دفاعاً عن عفرين.
بعد عام ونصف من احتلال عفرين، وجهت تركيا فوهة الحرب صوب مناطق “كري سبي وسري كانيه”، التي حُرِّرت في أعوام سابقة من النصرة وداعش، واحتلت تركيا المنطقتين في تشرين الأول عام 2019 بعد نحو ستة أشهر من إعلان قسد القضاء على الوجود الجغرافي لداعش.
لقد بدا واضحاً أن تركيا بدأت السير على خُطا داعش وتنفيذ ما لم تستطع داعش تحقيقه، أي احتلال كامل الجغرافية على امتداد الحدود (السورية ـ التركية) بعمق يزيد عن 30 كيلو متراً، إذ كانت تركيا قد احتلت في 2016 مدن جرابلس، الراعي، إعزاز والباب بريف حلب الشمالي الشرقي، ثم عفرين عام 2018 ثم (كري سبي ـ سري كانيه عام 2019، ولا تزال تحتفظ بنوايا احتلال باقي المناطق الحدودية لإقامة ما تسمى بـ”المنطقة الآمنة”، التي ستشكل لاحقاً أرضية لتنفيذ الميثاق الملي.
لذلك تواصل تركيا دون توقف شن الهجمات على شمال وشرق سوريا، برفقة مجموعاتها المرتزقة الذين انضم إليهم لاحقاً عناصر داعش الهاربين من المعارك التي قادتها قسد، وارتدوا العباءة التركيّة للعودة إلى المناطق التي طُرِدوا منها.
محاولات حثيثة لضرب المشروع الديمقراطي
تبين مؤخراً، بأن الدولة التركية المحتلة لم تكن وحدها من تحاول ضرب المشروع الديمقراطي بل هنالك أطراف أخرى كالنظام السوري وإيران، إذ تحاول هذه الأطراف مجتمعة ضرب الثورة والإدارة الذاتية وقوات سوريا الديمقراطية التي تشكلت بعد اندلاعها، لذلك، فإن الأوضاع على الأرض تشير اليوم إلى أن الحرب المعلنة ضد المنطقة من جميع الجهات والأطراف، لا تقتصر على الهجمات العسكرية فحسب، إنما تتعرض المنطقة لأنواع خطيرة من الحرب الخاصة تديرها هذه القوى بهدف إضعاف قسد والإدارة الذاتية وإفشال هذه التجربة.
ولعل أبرز وجوه هذه الحرب الخاصة، هي مساعي بث الفتنة بين الشعوب، وبشكلٍ خاص السعي لتذكية نار الفتنة بين جميع الشعوب السورية، وكانت الأحداث الأخيرة في دير الزور ومحاولة تأليب العشائر العربية ضد قسد رهانها الأساسي.
إلى جانب الحصار المفروض على المنطقة من جميع الجهات، وكان إغلاق معبر “تل كوجر/اليعربية” أمام المساعدات الدولية القادمة إلى مناطق شمال وشرق سوريا أبرز حلقات هذا الحصار على المنطقة التي تأوي مئات الآلاف من المهجرين والنازحين من المناطق السورية والعراق، كما تحبس تركيا حصة سوريا والعراق من نهر الفرات الذي يعتبر شريان الحياة بالنسبة لمناطق شمال وشرق سوريا، ويجري الاعتماد عليه لتأمين مياه الشرب لمدن كبيرة مثل “حلب والرقة ودير الزور وكوباني والطبقة” وغيرها العديد من المدن وآلاف القرى، كما يعتمد على النهر لتوليد الكهرباء عبر ثلاثة سدود تديرها الإدارة الذاتية، إلى جانب تأمين مياه الري لمئات الآلاف من هكتارات الأراضي الزراعية في منطقة تعتبر السلة الغذائية لسوريا.
