إعداد/ ليكرين خاني_
في الكاظمية حيث يتجاوز مرقدي موسى الكاظم وأحمد بن حنبل الجانب الغربي من بغداد، تشاء الصدف أن ينشأ واحد من أهم علماء الاجتماع في العصر الحديث، وأكثرهم واقعية وانفتاحاً في بيئته اجتماعية راضية بما تحتكم إليه من يقينيات ثقافية ودينية، ألف العديد من البحوث المهمة، وكتباً ومقالات، ولم يلتفت إلى مستقبله الشخصي، وإنما كانت حياته معاناة وتعب واجتهاد، واختلاف مع الحكام في بعض الأمور، وفي هذه المعاناة وحدها رأى المستقبل يُصنع بين يديه.
تنويريون، مغامرون، مسؤولون بالقلق والسؤال، شغلتهم أحوال مجتمعاتهم التي ندر فيها العدل، وكثر الظلم، متعثرة في خطواتها تغرق في مخلفات التاريخ، وتجتر الجاهزة من الأجوبة، هم خرجوا عن المألوف في التفكير وفي تشخيص أعطاب المجتمع، فأثارت أطروحاتهم عصفاً من السجال، والنقاش لم يهدأ قبل أن تتخذ شكل مرتكزات جديدة في أنواع المعرفة، فصاروا من المؤسسين، إذًا لم يكونوا عابرين في زمانهم أو مقلدين، بل مقيمين في أزمنة مستقبلية بعد رحيلهم، وذلك عبر إنجازاهم المعرفي الذي كسر ما هو مألوف ومُطمئن، حركوا الساكن وتجرؤوا عن المسكوت عنه، ومن بينهم عالم الاجتماع العراقي والمؤرخ والاستاذ الجامعي علي الوردي، الذي أشتهر بتحليله لواقع المجتمع العراقي والعربي، وكتب المئات من المقالات والعديد من المؤلفات أشهرها (كتاب مهزلة العقل البشري، وعّاظ السلاطين، خوارق اللاشعور، أسطورة الأدب الرفيع، ومنطق ابن خلدون ).
نشأته ومراحل دراساته
ولد علي حسين عبد الجليل الوردي عام ١٩١٣ وسط جو ارستقراطي، لم تظفر منه عائلته، التي امتهنت لأجيال تقطير الورد بسعة الحال، فجلب توق هذا الفتى للعلم والمعرفة معاناة صبغت بداية حياته، حيث اضطر إلى ترك الدراسة؛ ليساعد والده العطار في عمله، ثم التحق بالمدرسة التي ما لبث أن هجر مقاعدها عام ١٩٢٤ ليعمل عند عطار لم يجد بداً من طرده، لانشغاله عن الزبائن بقراءة الكتب والمجلات، ليفتح إثرها دكاناً صغيراً أداره بنفسه، وفي عام ١٩٣١ عاد ليلتحق بالصف السادس الابتدائي، بعد أن لجأ إلى الدراسة المسائية، ليتخرج من الثانوية بالمرتبة الثالثة على مستوى العراق، وبعد أن عمل مُدرساً لعامين، حصل على بعثة دراسية للجامعة الأمريكية في بيروت، وتخرج منها بدرجة الشرف، ثم أُبتعث إلى جامعة تكساس لينال درجة الماجستير عام ١٩٤٨ في العلوم الاجتماعية، وبعد عامين تنبأ له رئيس جامعة تكساس، وهو يسلمه شهادة الدكتوراه عن أطروحته ( نظرية المعرفة عند ابن خلدون)، أنه سيكون الأول في مستقبل علم الاجتماع، وفي عام ١٩٥١ عُين الوردي أستاذًا جامعياً في قسم علم الاجتماع في جامعة بغداد، واستمر العمل بهذه المهنة حتى تقاعد بناء على طلبه عام ١٩٧٠ حيث وجه تركيزه، واهتمامه للتأليف والبحث العلمي، حيث بدأت شهرته تتسع، وتتخذ منحى عربياً وعالمياً بعد أن كتب الكثير عن شخصية الفرد العراقي، وطبيعة المجتمع العراقي، ويعد علي الوردي أول مؤسسي علم الاجتماع في الوطن العربي، وتظهر عبقريته أنه أعاد اكتشاف منطق ابن خلدون، وعمد إلى استخدامه ليتحرر من اغلال الفكر الكلاسيكي.
أهم مؤلفاته
ألف الوردي ثمانية عشر كتاباً بالإضافة إلى مئات البحوث العلمية والمقالات، وأهم كتابين أنجزهما الوردي هما (طبيعة المجتمع العراقي، ولمحات اجتماعية من تاريخ العراق الحديث) بستة أجزاء، إضافة إلى كراس (دراسة في شخصية الفرد العراقي، ووعّاظ السلاطين، و مهزلة العقل البشري، خوارق اللاشعور، والأحلام بين العقيدة والعلم ) ومن المعروف أن الوردي، وخاصة في كتابه الأول، استنتج أن الشخصية العراقية مزدوجة المعايير والقيم، فهي من ناحية تنادي بقيم الصحراء من غلبة وانتصار وفخر بالقبيلة والعشيرة والأصل والمحتد، ومن ناحية تتوق إلى التمدن والحضارة، وحب للاستقرار والمدنية، وفيما يتعلق بخوارق اللاشعور، يحض الوردي على أن ننظر إلى جوهر الإنسان لا إلى مظهره، وهو يصف الشخصية الإنسانية: أنها مثل الجليد العائم، الذي نرى عُشراً منه، ولا نرى التسعة أعشار الغاطسة منه في الماء، كما يعد الوردي العقل البشري متحيزا بطبيعته؛ بسبب العوامل اللاشعورية التي تقوده، وهي الإيحاء الاجتماعي والمصلحة الخاصة والعاطفة، وهو يصف العقل الباطن: أنه منجم من الذهب وكومة من الأقذار.
