قبل أربع سنوات، وبعدما استكمل الاحتلال التركيّ حملته على مدينة عفرين، كتب المفكر البارز والراحل ديفيد غربير حينها مقالاً في الغارديان البريطانيّة، قال فيه “المتطرفون الدينيون المحيطون بالحكومة التركيّة الحالية يدركون جيداً أنَّ روج آفا لا تُشكّلُ تهديداً عسكرياً لهم، لكن خشيتهم تكمنُ بأن يقدّمُ هذا النموذجُ رؤيةً بديلةً لما يمكنُ أن تكونَ عليه الحياة في المنطقة”. هذه الرؤية حسب غريبر تتمثّل بالديمقراطية المحليّة، والتحرّر البيئي، وتمكين المرأة جذريّاً، ومن ثم تسأل لماذا تخلّى قادة العالم الغربيّ عن هذه القيم الكونية؟
التناحر الجيوسياسيّ
جرائم الحرب وخرق القانون الدوليّ والإنسانيّ حسب التقارير الأمميّة من قِبل اليمين التركيّ، جلّها، لا يمكن أن تدومَ إلا عندما تسحقُ الحساباتُ الجيوسياسيّة الدوليّة كلَّ أشكالِ الحياةِ، وعفرين كانت ضحية هذه المقاربة بالمقامِ الأولِ على خلفيّةِ المذبحةِ السوريّةِ عموماً، فعندما تتحرّكُ أحجارُ الشطرنج في اللعبةِ الجيوسياسيّة الدوليّة وفقَ منطقِ القوّة، تتراجعُ بالضرورةِ المثاليّةُ الأخلاقيّة والقانونيّة كما يقول هنري كيسنجر في كتابه “النظام العالميّ”.
اليوم، تنتقدُ الدولُ الغربية، الاتحاد الأوروبيّ، والولايات المتحدة، على نحوٍ هستيريّ، هجوم بوتين على سيادةِ أوكرانيا، في حين بوتين مثل أردوغان يشنّ الحربَ وفق مزاعمِ حمايةِ الأمنِ القوميّ الروسيّ. ثمّة عبثيّة مفرطة هنا لدى استحضارِ مثال عفرين، فالغربُ كان يؤازرُ حجّةَ أردوغان بالدفاعِ عن الأمنِ القوميّ، بينما روسيا لم تنبس ببنتِ شفةٍ أسطوانتها المعتادة تلك حول السيادةِ السوريّةِ.
أنطونيو نيغري، العالم الاجتماعي الشهير، كان حاذقاً في كتابه “الإمبراطورية” عندما أعلن نهايةَ المنظومةِ الأخلاقيّةِ والقانونيّةِ التي تتخذ من الدولةِ القوميّةِ الكلاسيكيّةِ إطاراً لها، بعدما انجرف النظامُ الدوليّ في مرحلةِ الفوضى المتشعّبةِ منذ تفكيكِ الاتحاد السوفياتيّ، فالنظامُ العالميّ يندفعُ نحو القوّةِ والعنفِ ومصالحِ رأسِ المالِ بمعزلِ عن الحمايةِ القانونيّةِ والأخلاقيّة التي يفترضُ أن تصونَ حقوقَ المضّطهدين والضعفاءِ.
ادّعت الولايات المتحدة بالفعلِ أنّها تدعمُ حقَّ الدولةِ التركيّةِ بحماية نفسها من “العناصر الإرهابيّة التي قد تشنُّ هجماتٍ ضدَّ المواطنين الأتراك والأراضي التركيّةِ من سوريا”. إلى هذه اللحظة لا تزالُ تركيا شريكاً استراتيجيّاً للولايات المتحدة في حلفِ الناتو، ولا تريدُ واشنطن خسارةَ تركيا خاصةً بعد اندلاعِ الحربِ الأوكرانيّةِ، فالولاياتُ المتّحدةُ تعتبرُ ببساطةٍ عفرين مكاناً لا يمثلُ مشكلةً لها، لأنّها لا تقعُ ضمن أراضٍ مرسومةٍ للتحالفِ الدوليّ.
من جانبها، كانت روسيا تهدفُ من خلال السماح لتركيا بغزوِ عفرين بفتحِ المجالِ الجويّ لها، إلى وضع واشنطن في مأزقٍ، وخاصةً عندما تلّقت قوات سوريا الديمقراطية دعماً من تحالفٍ تقوده الولايات المتحدة، واكتسبتِ القدرةَ على السيطرة على مواردِ المياه والنفطِ الحيويّة التي كانت تحت سيطرةِ داعش في الرقة ودير الزور. دفعت هذه المعطيات حينها حجمَ التوترِ بين القوّتين العالميتين إلى مستوى جديد، تجلّت عواقبه بالتنافسِ بين قوات سوريا الديمقراطية والحكومة السوريّة المدعومة من روسيا وإيران، ولإضعافِ النفوذ الذي تتمتع به واشنطن في سوريا، دخلت روسيا حينها في صفقة الانفراجِ مع تركيا من خلالِ المجموعاتِ التبشيريّة والداعيةِ للمحورِ الأوراسيّ بالضدّ من الأطلسي. مثّل الجانب التركيّ، زعيم حزبِ الوطنِ المتطرف، دوغو برنجيك، في حين، شدّد المفكّرُ المتطرفُ الروسيّ، ألكسندر دوغين، بوجوبِ تعميقِ هذا التحالف وتقويضِ التأثيرِ الأطلسيّ على المشهدِ السياسيّ التركيّ.
في هذه المرحلة، تلاقت مصالح روسيا وتركيا، وكانت أنقرة ترغبُ بتفكيكِ المشروعِ الديمقراطيّ الذي يقوده الكرد في شمال وشرق سوريا، بينما سعت روسيا لتقليصِ النفوذ الأمريكيّ في سوريا عبر محاولة إزالةِ قواتِ سوريا الديمقراطية كحليفٍ على الأرضِ، بتقويضِ عفرين المحاصرةِ من الجهاتِ الأربعة، ثم تشجيع أنقرة لغزوِ المناطقِ الكرديّةِ على طولِ الشريطِ الحدوديّ.
مهّد ألكسندر دوغين لمثل هذا السيناريو، فكتب مقالة دعائيّة فجّة حينها، شنَّ فيها هجوماً على الكردِ تحت المزاعم التالية: الكردُ يرفضون الحوارَ مع النظام في دمشق، ولديهم نزعةٌ عدائيّةٌ تجاه تركيا، كما يُحكمون قبضتهم على المناطقِ العربيّةِ، ويملكون أجندةً سياسيّةً جديدةُ وخفيّة، ويتحرّكون تحت المشورة الأمريكية – الإسرائيليّة بصورةٍ مطلقة”. دوغين، كان يرغب أن يختزلَ رؤيته التلفيقية، بأنَّ نموذج عفرين هو الحلُّ الروسيّ الوحيد الأوحد، سيّما أنَّ دمشق وموسكو مع طهران وأنقرة رفضوا أيّ مقاربة لامركزيّة في شمال وشرق سوريا وإلى هذه اللحظة.
ثمّة خيط مشترك بين المحورين حيال عفرين، فبعدما اتّضحت سياسات ترامب خلال السنوات الماضية، بات واضحاً أن الغطاءَ الدوليّ لاحتلال عفرين، كان بقيادة “اليمين المتطرف الدوليّ” (ترامب وبوتين وبوريس جونسون ونتنياهو وحكومات أوروبا المحافظة)، ولا يجب استبعادُ أنَّ إدارة ترامب كانت راضية منتهى الرضا عن تصفيةِ ميراثِ باراك أوباما في الشرق الأوسط، وكانت متوافقة مع موسكو بخصوصِ الاحتلالِ التركيّ لعفرين.