زوبعة تركية للعبث باستقرار منبج

رامان آزاد –

من المفترض أن تكون منبج أولى المناطق في أولويات اهتمام أردوغان والدولة التركيّة لجهة الحفاظ على أمنِها واستقرارِها كما في سائر المناطق الواقعة على الحدود، ولكن الواقع هو عكس ذلك تماماً، إذ سعت أنقرةً للعبثِ بأمن هذه المناطق وحوّلتِ الحدودَ إلى معابر للإرهاب والسلاح والمرتزقة ودخلت عبرها محتلةً مناطق سوريّة.كانت أنقرة مرتاحة مطمئنة عندما كان المرتزقة يسيطرون على منطقة منبج ويعبثون بأمنها ويرتكبون الفظائع فيها، طيلة عامين تقريباً خلال عام 2014ــ 2016، وكذلك على كامل مساحة منبج، ولم تبدِ حكومة أنقرة أيَّ موقفِ امتعاضٍ أو تخوّفٍ على أمنها القوميّ حينها، ولنفهم بذلك معنى الأمن القوميّ الذي تتحدث عنه والذي تريده. ويتوضّح الأمرُ أكثر مع تحريرِ منبج وقيام أبناء منبج بدورهم بحماية المدينة وإدارة الحياة فيها وانقلاب الصورة وارتفاع الصوت في أنقرة يعبّر عن موقف عدم الرضا إزاء ذلك. واليوم وبعد تحرير منبج بنحو عامين من قبل مجلس منبج العسكريّ ومساندة قوات سوريا الديمقراطيّة، تضع حكومة أنقرة منبج في صدارة اهتماماتها وراحت تتحدث عنها هدفاً للعمليات التركيّة. وليس ثمّة شكٍّ بأنّ أردوغان يريد الثأر لمرتزقة داعش الذين ساهم في صنعهم وإيجادهم على الأرض وإمدادهم بأسباب التوسّع وممارسة الإجرام، وأما أنّهم دُحروا على يد قوات سوريا الديمقراطيّة في منبج ومناطق كثيرة آخرها إعلان تحرير ريف الحسكة كاملاً، فالمسألة فيها نظر بالنسبة لأنقرة، فأردوغان لا يرضى بهزيمة شركائه وأتباعه، وخسارة أدواته الطيّعةِ في تنفيذ مخططه الاستعماريّ في سوريا.
الهزيمة أفقدتِ السلطانَ صوابه فراح يتحدث عن تدخل وشيك ويفبرك تفاصيل في اتفاقه مع الولايات المتحدة، ويشنّ حرباً خاصة مستهدفاً معنويات الأهالي وطبيعة الحياة وحالة التوافق والتعايش الاستثنائيّة بين مكونات المدينة، والمسألة لا تحتاج تحليلاتٍ ومعلوماتٍ استخباراتيّة أو تسريباتٍ صحفيّة، بل هي غاية الوضوح في التصريحات اليوميّة للساسة الأتراك، إذ أضحى أردوغان شخصيّة إعلاميّة أكثر منه رجل دولة وسياسة، ويؤكّد أنّه زعيم مافيويّ يقود عصابات المرتزقة ثم تأتي الأحداث مطابقة لتعليماته، ومن اليسير متابعة التطبيق العمليّ لمخططاته من خلال ما يحدث في عفرين، منبج، عفرين، إدلب، شنكال وحتى قنديل.إلى جانب هذا لا يقبل أردوغان إبعاد مرتزقة داعش عن حدوده، لأنَّ وجودهم على الحدود يضمن له التدخّل في الشأن السوريّ أكثر واستمرار وجوده في تلك المناطق، فقد دخل إلى إدلب متفقاً أولاً مع مرتزقة النصرة بعدما أصبحت أستانه6 مظلة شرعيّة له. وإذا كانت الدول تحمي حدودها وتشعر بالأمان بوجود قواتها المسلّحة الوطنيّة من أبنائها على الحدود، فإنّ أردوغان يشعر بالأمان أكثر بوجود المرتزقة على الحدود، إذ لا فرقَ بين الجيش التركيّ والمرتزقة سلوكاً، فكلاهما يأتمر بالتعليمات ذاتها، ويسترشد بالعقل الفاشي نفسه.بعد أن أدرك أردوغان أنَّ خطراً كبيراً يحدقُ بمرتزقة داعش وهم على وشكِ النهاية، يحاول أن ينقذهم من الفناء، ولطالما أعلن رفضه تحرير كري سبي/ تل أبيض والرقة وسواهما، وأعلن معارضته لتواصل مناطق شمال سوريا ببعضها البعض، ولذلك احتل جرابلس من غير مواجهات تذكر مع مرتزقة داعش ومن بعدها مدينة الباب، واليوم احتل عفرين ليُعمِل معاولَ التقسيم الإرهابيّة في الجغرافيا السوريّة، مستفيداً من صمت العالم نتيجة سياسة الابتزاز التي يمارسها، إذ يلوّح أردوغان بإمكانيّة ضخِّ المرتزقة والإرهاب إلى دول أوروبا ومستثمراً ازدواجيّة معايير الغرب.
كانت هزيمة داعش في منبج مجلجلة مدوّيّة، وضربةً قويةَ أطاحت بصوابِ أردوغان إذ أنّها تجعل مخططاته في مهبِّ الريح، رغم كلّ حرصه لتوفير كافة الإمكانيّات لمرتزقته، لتنفيذ الهجمات وتقديم المساعدات والدعم اللوجيستيّ لهم من كافة النواحي، إضافةً لتأمين انتقالهم عبر الأراضي التركيّة لنقلِ جبهة القتال من منطقة لأخرى في سوريا، والنتيجة بعد كلّ الحرص أنّ المرتزقة يُهزمون أمام قوات سوريا الديمقراطيّة، وأنّ مساحاتِ التحرير تتوسّع، والناس تملّكت في المناطق المحرّرة إرادة حياتها وتدير شؤونها بنفسها، هو اندحارٌ للإرهاب ومأسسةٌ للمجتمع والديمقراطيّة.
حالة الاستقرار والأمن الموجودة في منبج لا تروق لأردوغان، وتحدثه نفسه في محاولة إعادة الحياة للإرهاب مرّة أخرى ليوسّع من سيطرتهم على المناطق السوريّة مرة أخرى، عن طريق واسطة العقد في شمال سوريا منبج. والحالة في عفرين هي كذلك إذ كانت آمنة مستقرة فدفع بالمرتزقة وشذاذ الآفاق إليها وساندهم بجيشه وعتاده وطائراته، ولننظر كيف استحال الوضع في عفرين اليوم؟ لا شيء إلا أنّ من الأهداف الأساسيّة لاستهداف منبج هو حلم أقرب للهوس باستعادة ما فقده في سوريا على يد قوات سوريا الديمقراطيّة من أبناء سوريا. وما يتطلع إليه أردوغان تحويل منبج إلى نموذج على غرار جرابلس وإعزاز ويفتح فيها معبراً للمرتزقة ويتمّ من خلالها نقل الأسلحة والذخائر والجنود.
من جهة ثانية يريد أردوغان بهذه الممارسات التستر على حقيقة الأوضاع الداخليّة في تركيا والأزمة التي تعصف بالاقتصاد والتي أطاحت بقيمة صرف الليرة التركيّة، بأن يحوّل الأنظار إلى سوريا ويعمل على إدامة أمد الصراع فيها وتعطيل الحلّ السياسيّ. واستغلّ كلَّ تفاصيل الأزمة السوريّة حتى اللاجئين الهاربين من أهوال الحرب بالمساومة على حسابهم، خدمةً لمصالحه، وتجيير كلّ شيءٍ سياسيّاً وترجمته على أنّه فوزٌ، كما فعل ذلك في الانتخابات الأخيرة، ليُظهرَ نفسه بطلاً قوميّاً، والحقيقة أنّه قيّد خيارات الناخبين واحتاج لحملات إعلاميّة ضخمة لتبرير عدوانه وهجماته.وحدات حماية الشعب جرّدت أردوغان حججه الواهية وفضحت ألاعيبَه، وقد أعلنت قبل فترة بأنّها سحبت مستشاريها العسكريين من منبج بعدما أدّت مهامها الوطنيّة في المشاركة بتحرير المدينة، وبعدما أصبح بالإمكان لأبناء منبج من أهاليها ومجلسها العسكريّ أن يضطلعوا بمهمة حماية مدينتهم والحفاظ على أمنها. المسألة في منبج أنّها نموذجٌ راقٍ لحالة التغيّر في مسار الأزمة السوريّة والحلّ الديمقراطيّ وترسم ملامح سوريا المستقبل، واليوم تجاوزنا مرحلة طرح الأسئلة لأنّ الوضع السياسيّ الراهن هو إجابة واضحة للأسئلة وبنفس الوقت أدلة ثابتة على مدى تورط أنقرة في دعم الإرهاب وضلوعها في مجمل الأزمة السوريّة ومسؤوليتها عن سفك دماء السوريين. والردُّ الحقيقيّ هو حالة الحياة في منبج، وأنّها اليوم تُدار من قبل الإدارة المحليّة والمجلس العسكريّ من أهالي منبج، وفي المواقف اليوميّة التي يبدونها رفضاً للهجمات والتدخّل في شؤونهم، وينظمون الفعّاليات المناهضة لدخول تركيا ومرتزقتها إلى المدينة ويؤكدون قدرتهم على الاعتماد على الذات، واستعدادهم لمواجهة زوبعة العبث بأمنهم واستقرارهم .