حكومة دمشق تحوّل سوريا إلى مصنع ضخم “للكبتاغون”

محمد حمود_

---

خلال السنوات الماضية، تحولت موانئ عالمية وإقليمية، لمسارح جريمة، بسبب تدفقات مخدر الكبتاغون القادم من سوريا، حيث باتت حكومة دمشق حسب تقارير مكتب الأمم المتحدة للمخدرات، واحدة من أكبر منتجيه عالميا.

حسب مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات، فالكبتاغون عقار بدأ تصنيعه بشكل قانوني في ستينات القرن الماضي، لعلاج اضطرابات نقص الانتباه وفرط الحركة، والاكتئاب، والنوم القهري (الخدار)، قبل سحبه من الأسواق في الثمانينات، بسبب آثاره الجانبية.

حُظر إنتاج الكبتاغون وخضع لرقابة دولية، واليوم ينتج، بشكل غير مشروع، من مادة الأمفيتامين.

سوريا من عاصمة الأمويين إلى عاصمة الكبتاغون

وحدات التحقيقات الاستقصائية في وسائل إعلام غربية، تتبعت شبكات الكبتاغون السوري، من واقع تحقيقات رسمية وقواعد بيانات حكومية، ورصدت حجم تلك التجارة وعلاقتها بمقربين من رئيس حكومة دمشق بشار الأسد.

كما كشفت مسارات التهريب عبر لبنان والأردن إلى دول خليجية وأوروبية، وكيف استخدمت دمشق المخدرات ورقة ضغط سياسية لكسر عزلة عربية دامت لسنوات.

فمنذ اندلاع الأزمة السورية عام 2011، وما تلاها من أحداث، خسرت البلاد الكثير من الموارد الاقتصادية، ومن أهمها النفط، الذي كان يشكل أكثر من ثلث ناتج الدخل القومي السوري، حسب الخبير الاقتصادي أسامة قاضي.

بحثاً عن مورد بديل، “باتت عاصمة الأمويين، الآن هي عاصمة الكبتاغون”، يضيف “قاضي”، واصفا سوريا التي أصبحت “مركزا رئيسا لصناعة المخدرات”.

مصدر مالي بديل

وحققت شبكات الكبتاغون حول العالم، أرباحا طائلة من مبيعات قدرتها الحكومة البريطانية بـ 57 مليار دولار، وكانت سوريا مركزا رئيسا لتلك الصناعة.

مع صعوبة تقدير حجم الأموال التي تجنيها حكومة دمشق، قدر إحصاء لمعهد نيولاينز للدراسات في واشنطن، قيمة ضبطيات الكبتاغون بنحو 5.7 مليار دولار، لكن كبيرة الباحثين بالمعهد، كارولين روز توضح أن هذا المبلغ لا يرسم الصورة بأكملها، مشيرة إلى وجود الكثير من حبوب الكبتاغون، التي لا تزال تتسرب عبر الموانئ والطرق البرية ولم تكتشفها سلطات إنفاذ القانون إضافة إلى شحنات تم ضبطها ولم يعلن عن ذلك.

في الأول من تموز 2020، صادرت السلطات الإيطالية، في ميناء ساليرنو، بمقاطعة نابولي الإيطالية، على البحر المتوسط، ثاني أكبر شحنة كبتاغون مضبوطة في التاريخ، نحو 14 طنا أو ما يعادل 84 مليون قرص بقيمة سوقية تتخطى المليار يورو.

 وحسب بيان وكالة الجمارك الإيطالية، أرسلت المضبوطات شركة سورية، وأنتجتها مرتزقة داعش لتمويل الإرهاب.

لكن الرواية الرسمية، لم تكن مقنعة لتشارلز ليستر، الباحث المختص في الشأن السوري بمعهد الشرق الأوسط في واشنطن.

الشك في قدرة “داعش”، على إنتاج كميات هائلة من حبوب الكبتاغون، طرح العديد من الأسئلة حول المستفيد الحقيقي، وهل كانت إيطاليا، الوجهة النهائية، أم مجرد محطة عبور لدولة ثالثة.

قصة أحد مسؤولي تهريب الكتباغون

وبعد نحو عام ونصف العام، كشفت جهات التحقيق عن المتهم الرئيس في الشحنة، رجل أعمال سوري يدعى طاهر الكيالي، واتهمته شرطة الأموال الإيطالية في شباط عام 2023 باعتباره المسؤول عن تهريب 14 طن من الكبتاغون إلى ميناء ساليرنو.

لم يكن اسم طاهر الكيالي جديدا على مسامع سيسيليا أنيسي، مؤسسة مشروع الصحافة الاستقصائية بإيطاليا، والتي شاركت في تحقيق صحفي، كشف تورط رجل الأعمال السوري في تهريب شحنة مخدرات ضبطت قبالة سواحل اليونان عام 2018، ولخصت “سيسيليا”، نتائج ما توصلت إليه من خلال تحقيقاتها الاستقصائية حول “الكيالي”.

فبعد عودته إلى سوريا، أسس الكيالي، شركات نقل بحري من أهمها “نبتونوس”، التي حصلنا على عقد تأسيسها، المنشور في الجريدة الرسمية السورية عام 2017. أُنشئت نبتونوس قرب مرفأ اللاذقية بشراكة بين الكيالي وشاب في العشرين من العمر يُدعى مصطفى الحاج حسين. وبعد عام من تأسيس “الكيالي” لشركته، أوقف خفر السواحل اليوناني سفينة، اسمها “نوكا”، ترفع علم سوريا، كانت تحمل كمية كبيرة من الحشيش والكبتاغون قيمتها 100 مليون دولار.

حسب وثائق محكمة استئناف بنغازي، كان في انتظار السفينة “نوكا” في ليبيا شخص سوري يدعى محمود الدَج، على رأس شركة يعمل لحسابها عدد من السوريين والليبيين، وفق اعترافات أحد المتهمين السوريين الذي عرض عليه “الدّج” العمل في تهريب المخدرات مقابل 10 آلاف دولار عن كل عملية فك لأرضية الحاويات ونزع ما بداخلها من مخدرات.

كشف الزيف بالحقائق

لسنوات طويلة، استمرت حكومة دمشق، في نفي علاقتها بشبكات المخدرات، مدعية، حسب بيان رئاسة مجلس الوزراء أن “سوريا تعدُّ دولة عبور للمواد المخدرة”، لكن التقاء خيوط شبكة الكبتاغون المعقدة، عند رجل الأعمال السوري، طاهر الكيالي، وانطلاق تدفقات المخدر المضبوطة من اللاذقية، كشف عن علاقة بين ماهر الأسد قائد الفرقة الرابعة في جيش حكومة دمشق، وشقيق بشار الأسد، حسب سيسيليا أنيسي، مؤسسة مشروع الصحافة الاستقصائية في إيطاليا.

15 مصنعاً لإنتاج الكبتاغون

تملك سوريا، منذ سنوات ما قبل الأزمة عام 2011، مقومات تصنيع العقاقير، ساعدتها على إنتاج 90 بالمئة من احتياجاتها الدوائية، ولا يعرف على وجه الدقة عدد معامل الكبتاغون الصغيرة في سوريا، لكن تقارير استقصائية، تشير لوجود ما لا يقل عن 15 مصنعا كبيرا لإنتاج الكبتاغون بجانب عقاقير مخدرة أخرى، وفق مركز  COAR للأبحاث في قبرص.

تتركز مواقع الإنتاج الرئيسية في محافظة حمص وفي بلدة البصة، وهي منطقة نائية بمحافظة اللاذقية، ومصنع آخر تديره الفرقة الرابعة، حسب المركز ذاته.

تنتج هذه المصانع “مادة الأمفيتامين” وبعدها تبدأ رحلة الكبتاغون نحو أسواق بيعه في دول الخليج، وأبرزها السعودية، التي ضبطت فيها أكبر كمية من المخدر المحظور، حسب تقرير المخدرات العالمي 2022، الصادر عن مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة.

وأشار التقرير إلى أن منشطات الأمفيتامين، هي أكثر مجموعات المخدرات، انتشارا فوق أراضي المملكة.

قانون الكبتاغون

في نهاية عام 2022، انتقلت أصداء تجارة الكبتاغون العابرة للحدود، إلى الكونغرس الأمريكي، إذ صاغ المشرعون الأمريكيون قانونا يقضي بتفكيك شبكات المخدرات السورية، أو ما عرف “بقانون الكبتاغون”.

ألزم القانون، خلال مدة لا تتجاوز 180 يوما، وزراء الدفاع والخارجية والخزانة ومدير إدارة مكافحة المخدرات، ومدير المخابرات الوطنية، ورؤساء الوكالات الفيدرالية الأخرى ذات الصلة، أن يقدموا للجان الكونغرس، استراتيجية مكتوبة لتعطيل وتفكيك شبكات إنتاج وتهريب المخدرات، المتصلة بحكومة دمشق.

في غضون تلك المهلة، وبتنسيق ثنائي، أصدرت الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة، قائمتين من العقوبات، بحق سوريين ولبنانيين مرتبطين بشبكات الكبتاغون، في مقدمتهم طاهر الكيالي، مالك شركة نبتونوس للنقل البحري، والمتهم بالمسؤولية عن نقل المخدر عبر البحر المتوسط، وبعد نحو شهر من العقوبات الأمريكية والبريطانية، أعلن الاتحاد الأوروبي، قائمة ثالثة شملت أشخاصاً وكيانات أبرزها الفرقة الرابعة التي يقودها ماهر الأسد.

رغم العقوبات الأمريكية، البريطانية، والأوروبية، ووفقاً للبحوث الغربية وما توصلت إليه من أدلة، تحرك أفراد هذه الشبكة بالفعل للالتفاف على العقوبات حتى قبل المصادقة على قانون الكبتاغون وإصدار القوائم.

وتوصلت التحقيقات لعقد شركتين جديدتين أسسهما طاهر الكيالي في اللاذقية، مطلع عام 2022، الأولى تدعى أسطول الشرق للملاحة بشراكة مع سوري اسمه مؤيد هاني وليو يمتلك واحد بالمائة فقط من أسهم الشركة. والثانية “عالم المحيطات” والتي حلت محل نبتونوس المعاقبة في العنوان نفسه باللاذقية، وكذلك في حساباتها عبر مواقع التواصل الاجتماعي.

 التهرب من العقوبات

تعد محاولات التهرب من العقوبات استراتيجية مألوفة لحكومة دمشق، كما تصفها رهف الدغلي الباحثة بمركز حرمون للدراسات المعني بالشأن السوري، مشيرة إلى أن طاهر كيالي “قد يكون مثالاً يخبرنا عن كيفية استخدام النظام لهذه الأسماء”.

وأوضحت “رهف” أن حكومة دمشق “ستقوم بابتداع اسم ووجه جديد يمارس أو يتابع بنشاط الاقتصاد غير المشروع في سوريا”.

ومثلما تخلى الكيالي عن نبتونوس، أغلقت أيضا بنهاية عام 2021، أربع من أصل خمس شركات، كان يمتلكها في لندن، أما الخامسة وهي Levant Fleet”  ” أو “أسطول الشام”، فقد خرج منها بعد أيام فقط من إدراجه بقوائم العقوبات، فانتقلت الشركة لمالك جديد، اسمه مؤيد هاني وليو، وهو نفسه شريكه في “عالم المحيطات” بحصة الأقلية.

بينما تلتف شبكات صناعة وتصدير الكبتاغون للهروب من العقوبات، واستئناف نشاطها تحت أسماء شركات جديدة، سعت حكومة دمشق إلى تحقيق مكاسب من نوع آخر، وهي العودة إلى عضوية جامعة الدول العربية، المجمدة منذ عام 2011.

موافقة دول عربية على إعادة العلاقات مع الحكومة، بعد أكثر من عشر سنوات من المقاطعة، خطوة يرى خبراء أنها نتيجة محتملة لاستخدام دمشق تهريب المخدرات كسلاح سياسي.

لم يغب ملف المخدرات عن أجندة الاجتماعات التمهيدية لعودة دمشق إلى الجامعة العربية، في الأول من أيار 2023، قبل فك تجميد عضويتها، حيث شهدت العاصمة الأردنية، عمان اجتماعا ضم وزراء خارجية الأردن، والسعودية، ومصر، والعراق، مع نظيرهم السوري، وكانت إحدى مخرجاته الأساسية، وفقا للبيان الختامي، “التعاون لإيقاف إنتاج وتصدير الكبتاغون”.

في الشهر نفسه عادت حكومة دمشق إلى عضوية الجماعة العربية، لكن خبراء يشككون في التزام دمشق بتعهداتها، معتبرين أن شبكات الكبتاغون ستسعى لمواصلة نشاطها أيا كان الوضع، خاصة مع حجم المكاسب الخيالية للتجارة المحظورة.