حقيقة الصراع في الشرق الأوسط وآليات الحل

حمزة حرب_

---

خلقت النظم الرأسمالية حول العالم مفاهيم سوقتها للمجتمعات على أنها من المسلمات، وعلى رأس هذه المفاهيم المغلوطة هي أن صراع البشر حتمٌ لا مناص عنه، وبدأت حالة تقسيم المجتمعات، لحكوماتٍ ودول، وفق أعراق وديانات، تعكس واقع الشرق الأوسط اليوم بعد أن غمرته المصالح المؤججة لحالة الغليان دون إدراك لحقيقة الصراع، أو الخوض في تفاصيله، إنما المضي وراء وهمٍ خُلِق لتحقيق مصالح أطراف دولية وإقليمية لكن طوق النجاة في نهاية المطاف هو العودة إلى الحقيقة البشرية بالنظر إلى تاريخها الطويل والمشترك من التعايش السلمي.

حقيقة الصراع في الشرق الأوسط

باتريك سيل الكاتب والصحافي البريطاني يقول في كتابه “الصراع على الشرق الأوسط”: إن الشرق الأوسط قد بدا أقرب من أي وقت مضى، بالتحول إلى بؤرة انفجارات كارثية، أو إلى أن يشهد سلسلة من التفجيرات المتصلة ببعضها؛ تفجيرات في سوريا والأردن ولبنان وإسرائيل، وأخرى في الأراضي الفلسطينية، وثالثة في منطقة الخليج العربي.

بينما يكشف “ثعلب السياسة الأمريكية” ووزير خارجيتها الأسبق هنري كيسنجر عن “إن أميركا، بعد أن أتاحت للصين فرصة زيادة قوتها العسكرية، وسمحت لروسيا بالتعافي من اضطراباتها الداخلية، ووفرت لهما شعوراً زائفاً بالقوة، عملت على السيطرة على سبع دول شرق أوسطية -لم يسمها-غنية بالموارد، “لأنك إن سيطرت على النفط تتحكم بالدول، وإن سيطرت على الغذاء تتحكم بالشعوب”، وهي في طريق استكمال هذا الهدف.

فعليه يتبين أن الأنظمة الرأسمالية تنظر إلى منطقة الشرق الأوسط على أنها دجاجة تبيض ذهباً بعيداً عن التفكير في مستقبل الشعوب وحياتها وذلك لما تكتسبه هذه الجغرافية من أهمية اقتصادية متمثلة بثرواتها المقدرة بوجود النفط والغاز الذي أكسب المنطقة أهمية اقتصادية للدول الرأسمالية حيث يقدر احتياطي النفط فيها 66% من احتياطي النفط العالمي.

وإنتاج النفط فيها ثلث الإنتاج العالمي ويوجد هذا النفط بشكل كبير في دول الخليج العربي، ومن هنا جاء سعي الدول الكبرى للإشراف على هذه المنطقة، وفي مقدمتها الولايات المتحدة الأمريكية من خلال إنشاء قواعد عسكرية بحجة الدفاع والحماية وذلك بعد خلق أعداء وهميين وإرباك المنطقة عسكرياً وأمنيًا، وخلق حالة الفوضى السياسية والخصوم، وكل هذا يدخل ضمن استراتيجية اليمين المتطرف داخل المنظومة السياسية العالمية.

طرق التجارة ولعنة الجغرافية

للشرق الأوسط أهمية استراتيجية كبيرة جداً إلى جانب أهميته الاقتصادية، وثرواته الهائلة فهو حلقة الوصل بين دول وقارات العالم، وهو امتداد للشرقين الأدنى والأقصى، وهو مركز حيوي مهم بين قارات أوروبا وآسيا وإفريقيا، ويمتلك مقومات التكامل والوحدة، التي تشكل تهديدًا كبيرًا للدول الرأسمالية.

لذا كان لا بد من خلق حالة شرخٍ عميقة وذلك من خلال فسح المجال لسيطرة سلطة معينة أو عرق أو قومية أو دين وقمع الشعوب الأخرى وحرمانها من حقوقها المشروعة في العيش بكرامة لتبقى المنطقة في حالة صراعٍ مستمر بعيداً عن المشاريع الاقتصادية للدول العظمى.

من أهم تلك المشاريع حول العالم هي الطرق التجارية الخمس “طريق الحرير – وطريق البخور – وطريق العنبر- وطريق الخيول والشاي – وطريق الصحراء الكبرى”، وهي جميعها محط أطماعٍ دولية لكن لعنة الجغرافية التي فرضت على الشرق الأوسط جعلت أبرز اثنين من هذه الطرق عقدة الوصلٍ فيها هي منطقة الشرق الأوسط، ما يجعلها بوصلة الصراع الدولي للسيطرة عليها والتحكم بها بغية الهيمنة الاقتصادية على العالم، وهما طريق الحرير وطريق البخور.

“الحزام والطريق” وحلم الصين العظيم

لطالما كان طريق الحرير عبر التاريخ أحد أكثر الطرق التجارية أهمية بين الطرق الخمس حول العالم؛ لأنه يربط الشرق والغرب وهو يمر عبر البر من خلال مجموعة من الطرق المترابطة، ويعبر عدة مسطحات مائية مثل المحيط الهندي وصولاً إلى الشرق الأوسط من بوابة الخليج العربي.

ساهم الطريق تاريخياً في تطوير مجموعة من المعالم البارزة لما له من أهمية كبيرة مثل سور الصين العظيم الذي شُيد لحماية هذا الطريق التجاري.

هذا الطريق تستميت الصين لتنشيطه مجدداً عبر مبادرة “الحزام والطريق” التي أعلن عنها الرئيس الصيني شي جينبينغ عام 2013 وتم توصيفها بأنها “طريق حرير القرن الحادي والعشرين”.

هذا ما سيتيح للصين أن تكون مصنع العالم بأسره فالبضائع والمنتجات الصينية التي تحمل وسم “صنع في الصين” ستغزو أوروبا وأفريقيا؛ لذا لا بد وأن تتم السيطرة على الشرق الأوسط الذي يعدُّ عقدةً لمفاوية في هذا الطريق الهام.

المشروع يعمل على ربط شرق آسيا بأوروبا إلى جانب أفريقيا وأوقيانوسيا وأميركا اللاتينية ويتكون من ممرين: “الحزام” وهو عبارة عن ستة ممرات برية، تربط الصين بأوروبا الغربية عبر آسيا الوسطى وروسيا، و”الطريق” الممر البحري الذي يصل الصين بأفريقيا وأوروبا عبر بحر الصين والمحيط الهندي والشرق الأوسط في قلب العاصفة بين الحزام والطريق.

طريق البخور والممرات الخضراء الهندية

طريق البخور الهندي اكتسب هذه التسمية تاريخياً لأن البخور كان في حقبة زمنية معينة إحدى أغلى السلع في العالم القديم، وكان طريق البخور هامًا جدًا لأنه ربط المناطق التي تنتج كميات كبيرة من البخور بالمناطق، التي تستهلك كميات كبيرة منه إلى جانب سلع أخرى تُنقل عبر هذا الطريق مثل التوابل واللؤلؤ، وكانت مدينة الجرعاء التي أسسها البابليون نقطة تجارية هامة على طول الطريق كما ازدهر اليمن أيضًا بفضل هذا الطريق.

الهند تشجعت لطرح مشروع “الممرات الخضراء” على هامش قمة “مجموعة العشرين” في نيودلهي في أيلول لعام 2023 مستلهمةً إياه من طريق البخور التاريخي والذي سيربط آسيا بأوروبا انطلاقاً من الهند ومروراً بالخليج العربي، وسيتم نقل حاويات البضائع والسلع بحراً من الهند إلى الإمارات بعد ذلك، ستنقل البضائع من الإمارات عن طريق السكك الحديدية البالغ طولها 605 كيلومترات مع السعودية لربطها بخط سكك أخرى يبلغ طولها  1392 كيلومتراً من حرض جنوب شرقي الرياض إلى الحديثة عند الحدود الأردنية.

بعد ذلك يتم التعاون مع إسرائيل في الوصول إلى ميناء حيفا على ساحل البحر الأبيض المتوسط لنقل الحاويات عبر السفن من حيفا باتجاه بيرايوس في اليونان، ومعاودة استخدام شبكات السكك الحديدية الأوروبية إلى وجهاتها النهائية ويتضمن المشروع بناء موانئ ومنشآت للطاقة، وشبكات للسكك الحديدية والمطارات أو المجمعات الصناعية والمراكز التجارية.

الصراع الأمريكي الصيني على الشرق الأوسط

الصعود الصيني السياسي والاقتصادي على الساحة الدولية وانعكاس ذلك على المنافسة الواضحة مع القوة الأميركية في كثير من الساحات والمجالات، ومنها ما يهمنا في منطقة الشرق الأوسط الذي تأثر بشكلٍ كبير جراء هذا الصراع في تقليص نمو معظم اقتصادات المنطقة.

دول الشرق الأوسط لن تضطر في معظم الأحوال إلى الاختيار بين بناء روابط قوية مع الصين أو الولايات المتحدة ـ على خلاف الحال مثلاً فيما يتعلق بالعقوبات الحالية التي تجبرها على الاختيار بين الولايات المتحدة وإيران.

ومع ذلك تبقى هناك مجالات حيوية قليلة ربما سيتعين على دول الشرق الأوسط خلالها الاختيار بين الولايات المتحدة والصين، خاصة إذا استمرت العلاقات الاقتصادية بين الجانبين في التردي.

من بين هذه المجالات القطاع الأمني وما يرتبط به من تجارة واستثمارات ـ سواء أسلحة أو تكنولوجيا سيبرية أو مواد خام حساسة وبيع معدات عسكرية أميركية متقاعدة وبالتالي واشنطن والغرب يسلحون عسكرياً بما أن الشرق الأوسط الغني بثرواته لا زال يعاني من شحٍّ ملموس في معايير الحرب وآليات فضّ النزاع، بالمقارنة مع مناطق العالم الأخرى.

بينما الصين تهيمن تكنولوجياً وذلك بدى جلياً في السنوات المنصرمة على كل مناحي الحياة في الشرق الأوسط إن لم يكن بالعالم من بسط البضائع والمنتجات الصينية ذراعيها في السوق العالمية وآخرها الاستخدام المتزايد لتكنولوجيا الاتصال عن بعد من شركة «هواوي» الصينية.

وإذا تفاقم الصدع الاقتصادي بين الولايات المتحدة والصين، فإن اهتمام كل منهما ربما يتزايد بتقييد سوق صادرات مثل هذه السلع الحساسة، وحرمان الأخرى منها.

في هذه الحالة، تتعرض دول الشرق الأوسط لضغوط أكبر من أي وقت مضى كي تتخذ قرارات صعبة تجاه هذه الخيارات الحيوية، التي تتميز بطابع جيوسياسي لا يقل أهمية عن الطابع الاقتصادي لها.

لذا يرى خبراء في العلاقات الدولية أنه يتعين على صانعي السياسات والشعوب في الشرق الأوسط البحث عن تسوية لارتدادات هذه الحروب والصراعات بين الغولين الاقتصاديين العالميين وذلك خدمة وإنقاذاً للشعوب المتعايشة على هذه البقعة الجغرافية وانتشالها من براثن الهيمنة الرأسمالية على قراراتها ومستقبلها ومصيرها.

طوق النجاة وآليات الحل

إذاً بعد إلقاء الضوء على جزء هام مما يحاك حولنا نصل لخلاصة مفادها أن غاية الأنظمة الرأسمالية هي تفكيك المنطقة جغرافيا وسياسيًا واجتماعيًا واقتصاديًا وعسكريًا ثم إعادة صياغتها وفق مشروع تم تصميمه من الدول الاستعمارية؛ لسلب ثروات وهوية المنطقة وهو بالأساس قائم على صياغة نظام الشرق الأوسط الجديد.

فلتحقيق الأهداف الآنفة الذكر كلها؛ سعت الدول المهيمنة لخلق أنظمة تسيطر على الشعوب المتعايشة في الشرق الأوسط وتعمل على إحداث شروخٍ عقائدية أو قومية أو دينية فيما بين هذه الشعوب لإلهائها وحرف بوصلتها عما يحاك حولها ففكرة القومية أو القوموية التي لم تنجح في أوروبا تاريخياً وأغرقتها في حروبٍ دموية وفقرٍ مدقع واستنزافٍ بشري تم تصديرها إلى الشرق الأوسط لتفكيكه والهيمنة عليه، لذا كان لابد من بزوغ قادة بارزين طامحين للتخلص من هذه الهيمنة الرأسمالية وانتشال شعوب المنطقة من رمال المصالح الدولية المتحركة.

وبدلا من الاستفادة من الثقافات المختلفة كوعاء للتطور وكثروة، يتم إبقاء المنطقة ككتلة النار تأكل نفسها وما نشهده اليوم على سبيل المثال وليس الحصر، حرمان الشعب الكردي من العيش على أرضه وسلبه حقوقه وتقسيم أرضه لأربعة أجزاء موزعة بين “سوريا، والعراق، ودولة الاحتلال التركي، وإيران” وخلق النزعة القومية لإبقاء المنطقة في حالة صراعٍ بين شعوبها.

مثالٌ آخر وهو الصراع “الاسرائيل – الفلسطيني” وتصويره على أنه صراع “عربي يهودي أو إسلامي يهودي” ودخوله في حربٍ لا متناهية. وكذلك قضية الشعب الأمازيغي الذي قُسم هو الآخر بين عدة دول وكان لهذا الشعب قدر كقدر الشعب الكردي الذي منع، ولا يزال، من ممارسة حقوقه.

لذا رمى القائد الكردي والمفكر الأممي عبد الله أوجلان طوق النجاة لشعوب الشرق الأوسط لإنقاذها من الغرق الحتمي وحل المصالح الدولية وقدم العديد من الحلول للمشاكل العالقة وفق رؤية شاملة في إطار الحل الديمقراطي الذي تجاوز فيها مفهوم الدولة القومية، لأن المنطقة وطبيعتها متداخلة وشعوبها متعايشة ومتأصلة رغم تنوعها الكبير مثل العرب، والكرد، والآشوريين، والكلدان، والسريان، ولكنها متجانسة في ضوء التعايش الإيجابي الذي ضم تلك الشعوب على مر التاريخ.

فالحل يكمن في البحث والعودة إلى نقاط الالتقاء ونزع كل نقاط الخلاف التي زرعت في المنطقة لأن الأنظمة الموجودة لا تحل المشاكل الاجتماعية المستوردة، بل هي تؤزم المشاكل وما نراه من خراب ودمار وحروب، وهجرة هي نتائج للمصالح الدولية، التي تقاطعت في الشرق الأوسط وفرضتها لعنة الجغرافية والثروات الطبيعية، وليست نتاجاً لحقيقة المجتمعات الموجودة، أما حقيقة المجتمعات هي مجتمعات أخلاقية سياسية، تستطيع أن تدير نفسها بنفسها بعيداً عن الإملاءات الخارجية.

ويمكن لهذه المجتمعات أن تحل مشاكلها بنفسها وفق مبدأ الأمة الديمقراطية، التي تمنح هذه المجتمعات قوة ووحدة بين الشعوب، وتنهي الصراعات الموجودة في المنطقة، فعلى الشعوب والحال تلك أن تتحد لكي تنفي وجود معنى للدول الحاكمة، أو القوة الحاكمة، التي تسيطر على هذه الدول، وتبقى الإرادة الحقيقية هي الإرادة الشعبية.